خلال أقل من أسبوعين، تصاعدت التعبيرات السياسية والاحتجاجية للمتقاعدين العسكريين، وكلها تشير إلى تعاظم القوة السياسية لهذه الفئة الاجتماعية التي باتت تشكل واحدة من الكيانات السياسية التي لا يمكن تجاوزها، وتعبر عن إفراز طبيعي وغير مصطنع لتحولات اجتماعية وسياسية عمرها ثلاثة عقود على أقل تقدير.
قراءة حادثة الاعتصام الاحتجاجي على بوابة الرئاسة قبل أيام لا يجب أن تتوقف على القراءات السطحية، من اتجاهات متناقضة تتحدث عن قوة العصبية القابلة للتحول إلى قوة عنيفة؛ ولا القراءة التي تتعلل ببيع العواطف على الناس والبكاء على التاريخ، أو تلك القراءة التي تربط الحركات الاحتجاجية بالبعد الاقتصادي والأوضاع المادية لهذه الشريحة الواسعة وترفض تحميل ذلك أي معنى سياسي.
تكتمل حلقة جديدة من التحولات بالإعلان عن تأسيس أول حزب سياسي (حزب المؤتمر الوطني الأردني) يتخذ من المتقاعدين العسكريين قاعدته الأساسية، ويقدم خطابا سياسيا بوصفة جديدة تؤكد حجم التحولات الجوهرية التي يشهدها المجتمع السياسي الأردني، وتقدم لغة عنيدة وبتعبيرات غير مألوفة في قضايا الفساد وبنية النظام السياسي ومسألة الديموغرافيا والوطن البديل والهوية والعدالة التنموية.
الآفاق السياسية المفتوحة قابلة لتحالفات وتعديلات جوهرية في الاصطفافات وأدوات ممارسة السياسة في السياق الأردني، وقابلة لتجاوز خطوط التقسيم الراهنة التي أوجدتها أحزاب التصنيع الرسمي والحلفاء الأقدمون إلى مجال سياسي جديد، ربما نشهد فيه بناء قاعدة سياسية جديدة من أنصار مقاومة الوطن البديل بصلابة، والداعين إلى الانتصار لهوية وطنية جامعة غير قابلة للتجزئة، عابرة لخطوط التقسيم على الأصول الأردنية والفلسطينية، ومن خارج الأطر السياسية التقليدية هنا وهناك. بل المجال العام الجديد الذي ينضج بهدوء وقوة في هذا الوقت ينتظر ميلاد قوى سياسية من خارج العلبة، أي من خارج آليات التصنيع السياسي التقليدية الرسمية وغير الرسمية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
الخوف الذي يطل برأسه في كل لحظة تحول مصيرية يتمثل في هذا الوقت في محاولة اختطاف التحول، وإعادة تصنيعه وفق المقاسات التقليدية التي جاء التحول احتجاجا عليها في الأصل، كما هو مرشح أن يحدث مع حزب المتقاعدين العسكريين، حيث ستخاض معارك لحشره ودفعه نحو الزاوية، وحتى مجرد تحذيره من العنصرية أو الاقصاء يشي منذ البداية بوصمة قابلة للتسويق.
يشهد الأردن تحولا عميقا من بنية اجتماعية–سياسية تقليدية استمرت أكثر من ثلاثة عقود، إلى بنية جديدة غير واضحة الملامح لا يمكن التعامي عنها. يحدث ذلك وسط تشكل مجال عام جديد تنتظم فيه التفاعلات والعلاقات وفق خطوط جديدة داخل المجتمع وكياناته ومؤسساته وبين المجتمع والدولة، فيما تتغير وتتبدل أدوار فئات اجتماعية ووظائفها، وهذه طبيعة العلاقة بين البنية والوظيفة.
يقدم المتقاعدون العسكريون اليوم أحد أوضح النماذج على التحولات الأردنية خارج سياق التصنيع الرسمي التقليدي. إن المثير في الأمر القوة الاجتماعية الطبيعية التي تقود الحركة وقدرتها على الاستقلال وامتلاكها قضية ذات عمق مجتمعي وأبعاد اقتصادية وسياسية جميعها تعني مبررات تاريخية تحول أي قضية إلى قضية سياسية بامتياز، فيما يبقى الرهان على الأدوات التي سوف تستخدمها القوة السياسية الجديدة، وقدرتها على المناورة وبناء التحالفات في مجال سياسي جديد يتشكل، وفي سياق بنية سياسية تقليدية تتحلل.