استطاع الأردن أن يحقق إنجازا تنمويا في مجالي الطب والتعليم قل نظيره في العالم العربي في العقود الماضية. كان عنوان هذا الانجاز القطاع العام.
لم تأت هذه الانجازات بالصدفة، بل كانت ملهمة وموجهة بوعي القيادة ومثابرة الأردنيين. فكانت المدينة الطبية والجامعة الأردنية بداية قصة النجاح الأردني في هذا المجال بامتياز حيث استقطب كل منهما خيرة الكفاءات الأردنية، ثم حدث توسع في القطاع العام وازداد عدد المستشفيات والجامعات العامة في مختلف مناطق المملكة.
نتيجة للنمو السكاني وسياسات التحول إلى القطاع الخاص، وبعد تخمة القطاع العام في هذين المجالين، وعدم قدرته على سد الحاجات المستجدة، طالت هذه الموجة المستشفيات والجامعات علما بأن القطاع الخاص في الطب كان دوما موجودا، لكنه أحرز في هذين المجالين وما يزال توسعا كبيرا وغير مسبوق.
لا يختلف اثنان على أن تجربة القطاع الخاص في المجال الطبي في الأردن هي تجربة متميزة (على الرغم من الارتفاع المبالغ فيه للأسعار). بينما في المجمل لم تكن تجربة التعليم العالي في القطاع الخاص ناجحة، إن لم تكن قد فشلت بالفعل في تحقيق انجازات علمية مماثلة للانجازات التي حصلت في القطاع الطبي.
ورغم أن التعليم الجامعي في القطاع العام شهد تراجعا كبيرا كان يمكن أن يشكل فرصة للقطاع الخاص لأن يميز نفسه إلا أن ذلك لم يحدث. والسؤال (هنا) لماذا؟
القطاع الخاص في مجال الصحة يقدم خدمة مباشرة مرتبطة بصحة وحياة الإنسان وإذا لم يحرز تقدما، فسوف ينعكس ذلك مباشرة على المستوى الصحي للمواطنين. فمعايير النجاح في المجال الطبي أوضح وأسهل قياسا.
في المقابل، فإن التعليم الجامعي لا يحظى بالأهمية والخطورة نفسها لمتلقي الخدمة، حيث تنتهي هذه الخدمة بالحصول على شهادة، أي أن الشهادة والتخرج هما مقياس النجاح لكل من الطالب والمؤسسة التعليمية.
السبب الثاني، أن القطاع الخاص في المجال الطبي من الناحية المهنية استند في بنائه على كفاءات فذة، جاءت معظمها من القطاع العام، بخاصة من مدينة الحسين الطبية ومستشفى الجامعة الأردنية، لا بل إن البعض منهم حقق انجازات طبية متميزة، عندما انتقلوا إلى القطاع الخاص ونقلوا معهم هذه الخبرة.
لم يكن الوضع مماثلا في التعليم الخاص، في كثير من الأحيان أنشئت الجامعات من قبل مستثمرين ليس لديهم أية خبرة علمية أو تعليمية، وأضحت الجامعات خيارا استثماريا، وفشلت في استقطاب الكفاءات الموجودة في القطاع العام، ولم تستطع ترسيخ التقاليد الأكاديمية والعلمية والمؤسسية المعروفة، ولا تحظى الإدارات المتعاقبة بتحقيق الاستقلالية المطلوبة والضرورية لعمل المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، فأصبحت أغلب الجامعات الخاصة مكانا للطلبة الأقل انجازا والأكثر قدرة على دفع الرسوم وليس للمتميزين.
ثمة تفاوت بين جامعة وأخرى، لكن الصورة العامة لا تتغير. بالطبع هذا لا يعني أن القطاع الخاص في المجال الصحي يخلو من دافع الربح أو الاستغلال أحيانا.
العامل الثالث، الذي قد ساهم في تميز القطاع الخاص الطبي، هو المراقبة والمحاسبة والمتابعة، سواء كان ذلك من قبل الحكومة أم من قبل النقابات الطبية المعنية، التي لعبت دورا مزدوجا في تحقيق الخدمة الجيدة من جانب والدفاع عن حقوق الأطباء والعاملين في المجال الصحي من جانب آخر، وهو ما يكاد أن يغيب في التعليم الجامعي الخاص إذ لا توجد معايير وضبط للجودة (باستثناء شروط الاعتماد العامة والخاصة وهي في الشكل وليس في المضمون)، ولا يوجد إطار يرعى مصالح الأساتذة في الجامعات الخاصة، التي تبقى الحلقة الأضعف في العملية التعليمية، بعكس الأطباء الذين يشكلون الحلقة الأقوى في القطاع الطبي.