سيرة القرية والسكان طويلة، وتستحق التتبع والانتباه، لكننا هنا سنختصر بهدف طرح مسألة ملحة لا تحتمل التأجيل:
فقد أقيمت في القرية مدرسة حكومية لاستيعاب الطلاب والطالبات من القرية التي وصل عدد بيوت سكانها في السابق الى مائة بيت، ولكن غالبيتهم اضطروا ومنذ منتصف التسعينيات، الى الرحيل عنها غرباً باتجاه المفرق، تحت تأثير القحط والفقر.
استمرت المدرسة بخدمة طلاب الأسر المتبقية، واتبعت نظام الصفوف المجمّعة، أي جمع أكثر من مستوى في غرفة واحدة وتقسيم زمن الحصة بينهم، وإلى هنا لا يوجد اعتراض، فهذا إجراء ينطوي على قدر من المرونة.
لكن الإجراء الغريب، يكمن في طلب وزارة التربية والتعليم من بعض الطلاب، البقاء في منازلهم لمدة عام أو عامين أحياناً، حتى يتجمع عدد كاف من الطلاب، ثم يستأنفون الدراسة. وهم بالطبع لا يستطيعون الانتقال الى مدرسة أخرى، لأن أقربها إليهم تقع على بعد أكثر من 25 كلم ولا توجد أي وسيلة نقل عامة.
دهشنا عند سماع القصة، وخشينا أن هناك مبالغة أو سوء فهم، وطلبنا مقابلة بعض الحالات.
أرشدنا أحدهم إلى منزل الطالبة "مرادي عرار النعيم". استقبلنا والدها ثم حضرت الطالبة وروت قصتها: فقد أنهت الصف العاشر في المدرسة وبمعدل 97 وشهادة تفوق، ولكن المدرسة أبلغتها أن الوزارة لم تخصص هذا العام شعبة للصف الأول الثانوي، وعليها الانتظار الى العام الدراسي المقبل حتى يكتمل عدد الشعبة.
غير أن المفاجأة الكبرى، كانت عندما علمنا عن حالة أربعة أخوة، اضطروا لانتظار بعضهم بعضا وهم هذا العام سيتقدمون لـ"التوجيهي" معاً. وبالفعل وصلنا إلى منزل "أبو راكان"، والتقينا الأسرة كاملة، وقابلنا أختين توأمين، اضطرتا للتعطيل عن الدراسة عامين، وأخيهما راكان الذي انتظر عاما حتى تلتحق بهم أختهم الصغرى، وهم الآن جميعاً على مقاعد صف واحد، وقد جلبوا لنا شهاداتهم المدرسية التي تفيد بتفوقهم.
لا تستغربوا من تفوق هؤلاء الطلبة، ذلك أن الاستمرار في المدرسة يتطلب الإصرار على التعليم، وقد أبلغتنا والدة الطلاب الأربعة، أن إحدى بناتها أمضت شهورا، وهي تبكي لأنها لم تستوعب ولم تقتنع بسبب التعطيل.
غادرنا القرية مشدوهين، لنفاجأ على جانب الطريق بأسرة تقطن في بيت شعر، تضم أربع طالبات مصرات على التعليم، وفيما تمكنت ثلاث منهن من تحقيق ذلك وبمشقة عالية، بذلها الأب (83 عاماً)، فإن أكبرهن، البنت الرابعة، اضطرت لترك الدراسة في الصف الأول الثانوي، وهي الآن تأمل في أن تتمكن من دراسة "التوجيهي" ذاتيا، لكن شروط متابعة "المعاملة" ورسومها المالية تحول دون ذلك.
تتبع قرية صالحية النعيم للواء الرويشد، المصنف كأفقر منطقة في الأردن، وفي هذه الحالات يفترض بأن التعليم هو العنصر الأول في أي عملية تنموية، تهدف إلى مكافحة الفقر، والسلوك المنطقي يقتضي مكافأة من يحرص على التعليم.
من المرجح أن وزارة التربية ستتحدث عن "تعليمات" يجري تطبيقها، وهذا مفهوم. ولكن في ظروف كهذه؛ أيهما أجدر بالمراعاة التعليمات أم الإنسان الذي من أجله وُجدت التعليمات.. والوزارات أيضاً؟