أحمد عبيدات

يريح الرأس أن يقتصر عمل رئيس الوزراء السابق على ترؤس الجاهات طلبا وقبولا. يجد فيها أعدادا وفيرة من الناس توقره وتتملقه؛ وتؤكد له أن البلاد في عهده ازدهرت وهي اليوم في خراب، وأنه لا غنى عنه عائد - قريبا- لا محالة. يعود رئيس الوزراء من الجاهة، وقد استعاد توازنه ويمني النفس بقرب العودة، فلا شيء يعدل أن تكون على رأس عملك تتراكم على مكتبك كتب الصادر والوارد والتشريعات والتعيينات وهاتف لا يتوقف عن الرنين.

اضافة اعلان

يحاول رئيس الوزراء السابق أن لا يتخذ موقفا في أي قضية حتى لا تقل فرصه في العودة. وإن ساءه أمر اشتكى إلى زوجته أو بث همومه إلى صديق صدوق. وما في ذلك مؤشر ضعف على العكس هو لا يريد أن يدخل البلاد في اضطراب أن سمعت الناس آراءه الثورية. وتظل المصلحة العامة مقدمة دائما على الاعتبارات الشخصية. وقد يأتي يوم يجهر فيه بما أسر أن توافقت المصالح العامة مع رؤاه الذاتية.

المؤكد أن أحمد عبيدات ليس من هذه النوعية، فهو منذ غادر موقع رئاسة الحكومة، ظل حاضرا في العمل السياسي حتى قبل التحول الديمقراطي عام 1989. وعلى الذين يستغربون منه التوقيع على "نداء الإصلاح" الذي دان بيع الأراضي والمطالبة بالعودة إلى الدستور أن يتذكروا البيان الذي أصدره عام 1986 مع شخصيات وطنية تستنكر زيارة شمعون بيريز إلى الإسكندرية!

لم يسبق لعبيدات أن عمل في منظمة العفو الدولية، عمل في المخابرات وتعرض للاختطاف من فصيل ثوري، في ذاك الزمان واجهت البلاد معارضة مسلحة ومحاولات انقلاب واغتيال. ومع ذلك لم يمارس عندما قاد جهاز المخابرات منهجا دمويا تصفويا.

ترأس الحكومة، وغادر موقعه بسرعة، خلافا لمكوثه الطويل في موقع مدير المخابرات. تسرع -غير مضطر- في برنامجه الذي قام على ركيزتين: محاربة الفساد والديمقراطية. وواجه خصومات عاتية. أطاح برموز فساد كبيرة وقدم النظيف وأخر المريب. وقدم نموذجا في نزاهة الانتخابات عندما أجرى الانتخابات التكميلية عام 1984 وفاز المعارضون بأكثرية المقاعد يومها. (ليث شبيلات، وأحمد الكوفحي، ورياض النوايسة، وعبدالله العكايلة).

في الغضون، ظل رصيدا للدولة لا عبئا عليها. وعقب التحول الديمقراطي في 1989 اختاره الملك الراحل رئيسا للجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني. في الميثاق وجد نفسه في عمل مشترك مع من قاتلهم وقاتلوه. وغدا الفصيل الذي اختطفه حزبا سياسيا يعمل تحت مظلة الدستور. تحول الميثاق إلى قوانين وأنظمة وممارسات ولم يكن مجرد حملة علاقات عامة لتجميل الصورة.

تغيرت الدنيا في العام 1993، ولم تعد الديمقراطية أولوية. تأخر الأردن عن قطار التسوية الذي ركبته منظمة التحرير بغتة عنى للنظام وقتها أن وجود البلاد غدا محل نظر. حل مجلس النواب وشرعت حكومة عبدالسلام المجالي في غيابه قانون الصوت الواحد العجيب، وجاء المجلس الذي شرَع معاهدة وادي عربة. في مجلس الأعيان كان عبيدات العين الوحيد الذي يعارض المعاهدة ويستقيل.

اعتبر خصومه أن اختياره رئيسا للمركز الوطني لحقوق الإنسان إحراج له. فهو مدير المخابرات الذي ماتزال تقارير منظمة العفو الدولية التي توثق ما حصل من انتهاكات في عهده. وسيحول المركز إلى منبر للرد على تقارير منظمات حقوق الإنسان وتبرئة ساحة الحكومات. ما حصل العكس تماما، فقد كانت تقارير المركز الأكثر مهنية ودقة وجرأة. وبعد تقاريره عن الانتخابات البلدية والنيابية قيل أن أيامه في المركز معدودة. لكنه بقي ووقع  –بصفته الشخصية – على "نداء الإصلاح" وهو أكثر جرأة من تقارير المركز.

لم يعلن الكفاح المسلح في النداء، بل دان ممارسات محددة وطالب بالالتزام بالدستور، وسواء اتفقت معه أو اختلفت. فهذا دور السياسيين، وعلى مؤيديه أن يساندوه ويوقعوا على ندائه وعلى المعارضين إصدار نداء آخر يوضح مواقفهم وفهمهم للإصلاح. فدور رئيس الوزراء السابق سياسي أولا وآخرا لا اجتماعي ينازع شيوخ العشائر والمخاتير والمأذونين الشرعيين.

وما هو أسوأ من الصمت المريب من يوسوسون ضد النداء -ليس انتقادا لمحتواه- بل لعبا على غرائز الناس جهويا وإقليميا. فالنداء، حتى لو كان يعبر عن وجهة نظر تقود صاحبها إلى السجن، وقع عليه طيف سياسي متنوع فكريا وجهويا وإقليميا. وعلى الخصوم أن يترفعوا عن ألعاب خطيرة ليس وقتها الآن.

[email protected]