أخطأ فوكوياما.. التاريخ لم ينتهِ بعد

الرئيس الأميركي باراك أوباما - (أرشيفية)
الرئيس الأميركي باراك أوباما - (أرشيفية)

ألينا روتشا مينوكال - (فورين بوليسي) 17/9/2014

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

قبل خمسة وعشرين عاماً، قبل بضعة أشهر فقط من سقوط جدار برلين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، نشر فرانسيس فوكوياما ما أصبح واحداً من أكثر المقالات مناقشة واقتباساً في أواخر القرن العشرين. في "نهاية التاريخ؟" (العنوان فقد علامة الاستفهام التي كانت في نهايته عندما نشر فوكوياما فكرته كتاب في العام 1992)، احتفى فوكوياما بالانتصار العالمي للديمقراطية والرأسمالية، وهي أطروحة عاد إلى ترديدها مؤخراً في مقال افتتاحي نشرته صحفية "وول ستريت جورنال". وفيه أكد أن "الديمقراطية الليبرالية ما تزال بدون منافسين حقيقيين".اضافة اعلان
يبدو تأكيد فوكوياما تفاؤليته الأصلية مدهشاً بشكل خاص، بالنظر إلى الكيفية أصبحت بها الديمقراطية تبدو محاصرة في هذه الأوقات.
نعم، كان هناك تحول أساسي في طبيعة الأنظمة السياسية القائمة في شتى أنحاء العالم. وأصبحت معظم دول العالم اليوم ديمقراطيات رسمية انتخابية، والتي يعادل مواطنوها مجتمعة نحو ثلثي سكان العالم. ونعم، أصبحت كل دولة تعقد الآن انتخابات فعلية -وهناك اليوم عدد من النساء في البرلمانات الوطنية أكثر من أي وقت سابق.
لكن التاريخ، بعيداً عن اقترابه من نهايته، يبدو وأنه ينهض عائداً بنية الثأر. فرغم تلك التحولات المشهدية في البنى السياسية الرسمية، ثمة عدد صغير فقط من الديمقراطيات التي نجمت في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي استطاعت أن تتجذر بما ينبغي من العمق. بدلاً من ذلك، ثمة العديد منها ما تزال عالقة في طور الانتقال، والتي تحتل منطقة رمادية تراوح فيها بين الاستبداد، وبين الاستبداد السافر والديمقراطية كاملة الأركان. (ليست روسيا في عهد بوتين سوى مثال حي واحد بشكل خاص).
وفقاً لمنظمة "فريدوم هاوس"، تراجعت الديقراطية العالمية في كل سنة منذ العام 2005، وظلت المؤسسات الديمقراطية في كثير من الأحيان جوفاء، ضحلة وضعيفة. وقد برهنت الأحداث الأخيرة في كل من مصر وليبيا أن إسقاط دكتاتور هي مهمة أسهل كثيراً من تأسيس ديمقراطية عاملة. ويتبين أن بناء المؤسسات الليبرالية يشكل تحدياً رهيباً ومطولاً، والذي يُرجح أن يترتب عليه نجوم اضطراب وخصام هائلين. ولا يمكن ضمان النتيجة على الإطلاق.
في إضاءة للاضطرابات المستمرة في العالم، من أوكرانيا إلى غزة إلى سورية، تساءل منشور صدر مؤخراً عن منحة كارنيغي للسلام العالمي عما إذا كان العالم ينهار. وتذكّر هذه النظرة التشاؤمية بالاستنتاجات القاتمة التي رسمها المؤرخ الاقتصادي وعالم الاجتماع الراحل كارل بولاني "التحول العظيم"، تحليله الكلاسيكي للتفكك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي نجم عن انهيار حضارة القرن التاسع عشر، أكثر مما تذكر بتبشير فوكوياما بحلول عالم ما-بعد إيديولوجي.
وإذن، ما الذي حدث خطأ لحلم إمكانية إنجاز الديمقراطية التحويلية؟ إن ما يبرز الآن بشكل خاص هو خيبة أمل معممة من قدرة الديمقراطية على توفير السلع العامة، وطبيعة الوظائف الرئيسية التي يتوقع الناس من حكوماتهم الاضطلاع بها.
في الوقت الذي ما تزال فيه قدرات الدولة ضعيفة باستمرار، خاصة في الديمقراطيات الجديدة أو الناشئة، يتوقع المزيد والمزيد من المواطنين تزويدهم بخدمات أفضل، وتعزيز قدرة الاستجابة لحاجاتهم ومطالبهم. وكما يكشف بحثنا هنا في "معهد تنمية ما وراء البحار"، فإن الناس يميلون إلى تقييم الحريات السياسية والديمقراطية بأدوات عملية في أغلب الأحوال: كم تبلي الديمقراطيات حسناً؟ هل تنجح في تقديم المستويات المطلوبة من النمو الاقتصادي، والعناية الصحية، أو التعليم؟ في الحقيقة، أفضى عجز العديد من الديمقراطية على "توفير السلع" إلى وضعها تحت ضغط كبير.
عندما كتب فوكوياما أول مرة في العام 1989، لم يكن أي بديل موثوق للديمقراطية الليبرالية يلوح في الأفق. لكن ذلك تغير. عمل صعود الصين الاستثنائي على تحوليها إلى نموذج منافس في التنمية. وفي أفريقيا، ظهرت كل من إثيوبيا ورواندا أيضاً كحالات دراسة وأمثلة حية على التفوق الملحوظ للحكومات الاستبدادية وأنظمة الحزب المهيمن في تحقيق النمو الاقتصادي.
مع ذلك، يميل المدافعون عن الاستبداد إلى التعتيم على بعض النقاط الأساسية. ليس من الثابت دائماً أن تكون للنظام الاستبدادي دائماً مصلحة في لعب دور إيجابي في العملية التنموية. ويمتلئ التاريخ بالأمثلة على الدول الاستبدادية "التطفلية" أو المناهضة للتنمية في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية والاتحاد السوفياتي السابق. ويبقى الرهان على تفوقها المفترض رهاناً خطيراً: إنك لا تستطيع على الإطلاق أن تعرف مسبقاً ما إذا كانت النهايات سوف تبرر الوسائل.
في الحقيقة، نحن نتوقع الكثير من الديمقراطيات الوليدة، وفي وقت مبكر جداً. إن إقامة انتخابات وحدها لن يعرض علاجاً للمشكلات السياسية والاجتماعية الأعمق التي تواجه الدول في العديد من البلدان النامية. ومع أن الانتخابات تنطوي على إمكانية تعميق نوعية الحكم الديمقراطي، فإنها تظل أداة مثلومة نسبياً للتمثيل، ويمكن أن تكون لها حدود مهمة. وكما لاحظت مجلة "إيكونوميست"، فإن آليات التدقيق والرقابة تشكل ضرورات حاسمة لتأسيس ديمقراطية صحية، تماماً مثل الحق في التصويت.
إن تعزيز ثقافة يتم فيها تقييم الديمقراطية كعملية، وليس من حيث نجاحها في تقديم المنافع المادية فقط، لا بد أن يستغرق وقتاً. ومن الجدير تذكر أنه بعد أن اختبرت أوروبا "ربيع الشعوب" فيها هي نفسها في العام 1848، احتاجت الديمقراطية إلى أجيال عديدة حتى ترسخ أقدامها. وقد وقع نموذج الديمقراطية الليبرالية في المشاكل مرة أخرى في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، عندما أصبحت الفاشية والشيوعية بدائل جذابة للكثيرين ممن خابت آمالهم من عمل الأنظمة السياسية "الديمقراطية" -وبعواقب مروعة.
اليوم، فقدت الديمقراطية بريقها، وليس في العالم النامي فقط، وإنما أيضاً في الكثير من دول الغرب الغنية. وتسهم صدمة الأزمات المالية في العامين 2007 و2008 وتصاعد المخاوف من تعمق اللامساواة، في مفاقمة السخط الهائل من نوعية التمثيل الديمقراطي -وهي عواطف وجدت التعبير عن نفسها عبر كامل الطيف السياسي، وتراوحت بين حزب الشاي الأميركي وحركات "احتلوا" التي قامت في عدد من البلدان، وبين الشعبويين المناهضين لبروكسل في الاتحاد الأوروبي.
تجد دراسة حديثة تحلل نحو 2.000 من المبادرات السياسية الحكومية في الأعوام بين 1981 و2012 أن الولايات المتحدة ربما تكون قد أصبحت أقرب إلى نظام حكم أقلية من كونها ديمقراطية. واكتشف مسح أجري في العام 2012 في سبع من الدول الأوروبية أن أكثر من نصف الناخبين "لا يثقون في الحكومة". ويبين هذا الاغتراب واسع النطاق عن المؤسسة السياسية، خاصة في أوساط الطبقات الوسطى والشباب الساخطين، أن الناس يطلبون أكثر من مجرد إجراء انتخابات كل بضع سنوات. إنهم يريدون أن يكون لهم رأي في ما تفعله حكوماتهم، وبشكل خاص، بكيف تفعله.
إذا كان هذا يكشف عن شيء، فهو أن تكوين الديمقراطية هو طريق وعر بطريقة يتعذر تجنبها -نضال مستمر ينطوي على تراجعات بقدر ما ينطوي على تقدم. ولا يمكن أن تنجح الديمقراطية من دون التزام وقيادة من الأعلى والأسفل. لكنه لا ينبغي لنا استنتاج أن النموذج الديمقراطي قد فقد جاذبيته. لقد فتحت العمليات الديمقراطية آفاقاً وفرصاً جديدة للمشاركة وتداول السلطة، بينما تبين أنها تستطيع أن تثمر أيضاً، في دول بتنويع البرازيل، وغانا، وآخر ما يكون، تونس. وحتى في الأماكن التي أخفقت فيها الديمقراطية في ترسيخ نفسها، كما في مصر، فإن المشهد السياسي قد تغير على نحو لا رجعة فيه، ولن يعود أبداً إلى المربع الأول.
لقد أصبحت لدى المواطنين الآن توقعات أعلى بكثير. وحتى في الشرق الأوسط، من المرجح أن ينجب ذلك أنظمة أكثر استجابة على المدى الطويل. وربما تكون بنية الصين قوية، لكن نموذجها أيضاً يخفي مشاكل أكثر عمقاً، والتي تشكل اللامساواة الهائلة مجرد إحداها من بين الكثير. مع ذلك، يبقى انتصار الديمقراطية بعيداً كل البعد عن أن يكون مضموناً. إن إرضاء التوقعات الأعلى هو أمر صعب. وتستمر الأنظمة التطفلية، بل ويمكن حتى أن تتكثف، في الأنظمة الديمقراطية الجديدة حيث تكون المساءلة وآليات المحاسبة ما تزال ضغيفة.
وهكذا، فإننا لم نصل حتماً إلى نهاية التاريخ. لكن معظم الدول أصبحت تعترف اليوم بأسبقية الأشكال الديمقراطية، وهو شيء لم يكن ممكناً بأي حال من الأحوال قبل بضعة عقود فقط. ومهما كانت مَعيبة، كما يمكن أن تكون، فإن هذه الديمقراطيات الناشئة وُجدت لتبقى. ويحتمل كثيراً أن يكون العثور على الكيفيات لتزويدها بالمزيد من المعنى التحدي الأبرز للقرن الحادي والعشرين.

*نشر هذا المقال تحت عنوان:
 History Is So Not Over