أدب "اللطميات"!

الضحيةُ تعبت من بكائكم عند رأسها.
ولو قُيّضَ لها أن تحكي، لقالت: احملوا شِعركم الركيك من فوق جثماني وانصرفوا!
المشهد صار مخزياً، ننتظر المزيد من الدم.. لأنَّه حبر قصائدنا، .. والشِّعرُ استثمارٌ أنانيٌّ، لا يرى أبعد من مصلحته في المَجاز!اضافة اعلان
ما معنى أن يجتمع كل أهل القتيل في غرفةٍ أو غرفتين، في قارّةٍ أو قارتين ضيّقتين، لنتبادل النواح، ولنتسابق: أيُّنا أبرع في فنّ الرثاء.
خطابنا الشعبوي لا يصل حتى للقاتل، فهو مكتوب فقط بلغة القتيل. ولا يلفت انتباه لغةٍ أخرى.
هل نكتب لنسمع أنفسنا؟ هل لنتخلص من ثقل الضمير، هل لنقوم بالواجب -كما نفهمه- ثم ننصرف لشأنٍ أمتع!
الأدب جشِعٌ وانتهازيٌّ ويتحيَّن فرصة نشوب حربٍ، ليأخذ حصَّته الكبيرة منها. لا يعنيه القتلى بل يعنيه كم ستجني بلاغته في هذه المعركة من "الإعجاب"!
يسمعُ الشاعر بالمجزرة فيستنهض قاموسه على الفور، ويجلسُ -كما أفعلُ الآن- تحت المُكيّف، ليستفيد من قتلى الصباح في قصيدةٍ أو مقال!
ما الجدوى؟ ما فائدة كل هذه البكائيات التي نكتبها لبعضنا ونتلوها على بعضنا؟
من يقيم وزناً لبكائنا أو لشعرنا، ومن هو "المُخاطَب" حين نكتب؟!
هل وصلنا لزمان لم نعد نملك فيه، في كل حربٍ، سوى مخزوننا من "اللطميات" ومن الرثاء، ومن الشفقة على الذات أو جلدها. ما جدوى ذلك؟
ما جدوى كل هذا الشِّعر؟ كل هذا الحبر الذي يتغذّى على الدم؟ ما جدوى هذا المقال؟ ما الذي نريده فعلاً، إن كنّا نريد شيئاً، غير التخلّص من وخزات الضمير، واستثمار بضع حروب لإصدار ديوان شِعر!
الشعر في الحروب كان قديماً يُكتب ويُقرأ من باب الحماسة، وشدّ أزر المقاتلين، ولكنّه ما جدواه الآن وهو يُقرأ على رأس الضحية.. التي خاضت حربها وحدها، وعادت تجرجر جثَّتها، بلا فرسانٍ ولا مقاتلين!
استثمارنا "الأدبي" للقتلى فيه الكثير من الأنانية، وفيه الكثير من النكران لهم، حتى لو كانت خلفه "نوايا أدبية حسنة"!
وهو يشبه استثمار "السياسيّ" و"الحزبيّ"، للضحيّة في خطابه، أو إعلانه الانتخابي. استثمار بذيء للدم.
وصار مخجلاً أن نظلّ نغرفُ حبرنا من هذا الحزن، والأسوأ أن ننتظر الإعجاب والتقديس لهذا الأدب، بحجّة أنه يمتلك الحصانة الأخلاقية التي تمتلكها القضية نفسها!
بَشِعٌ جداً هذا الاستثمار، وبشعةٌ هذه المكانة التي نضع كتابتنا فيها.
فقتلانا يستحقون مِنّا أكثر من هذا "التنافس اللغوي" فوق رؤوسهم، .. وعلى اللغة/الأدب الذهاب إلى مكان آخر غير شِعر الرثاء، أو هذا التباهي بالموت، الموت المجّاني.
لم نَجنِ من موتنا، ومن شِعرنا، منذ سبعين عاماً ولو خطوةً واحدةً للأمام.
حتى أنَّنا نوشكُ أن لا نغادر المقبرة حتى نعود مُحمّلين بقتلى جديدين، ننهمكُ على الفور برثائهم!
أما الخطاب الجادّ، الذي يُفترض أن يُكتب للآخر، وبغير اللغة العربية، فلا أحد ينشغل به.. لأنّنا مشغولون بهذه المبارزات اللغوية بيننا وبانتظار "الإعجابات"!