أرض مشتركة, أو "ميتزاتيررا" أهداف سويف

بين حقب الخمسينات والستينات العربية والحقبة الراهنة بون شاسع في أكثر من جانب. واحد من تلك الجوانب هو الإنفتاح على العالم والتفاعل مع تياراته النابضة والإنخراط في حركته العامة على قواعد إنسانوية ومشتركة.

اضافة اعلان

كان الفكر العالمي الكوزموبوليتاني يفيض عبر الحدود مؤلفاً جبهات عريضة ضد الإستعمار وناثراً تحت ظل ذلك الشعار أحلاما ورؤى ومشتركات كانت تلتقي عليها ثقافات وجنسيات وتقاليد متنوعة.

في حقبة اليوم, ورغم أن الإستعمار أعاد إنتاج نفسه على شكل مشاريع امبرطورية متعدية للحدود, ومتمثل الآن في التوحش والإستعلاء الإمبريالي الأمريكي, إلا أن التآلف والتقارب حتى لا نقول الوحدة في جبهة مقاوميه غير موجودة بالمعنى الخمسيني والستيني لأسباب عديدة. واحد من أهم تلك الأسباب هو عدم التفريق بين غرب التنور وغرب التوحش, وإستثارة الأول على الثاني.

فكما أن الشرق ليس شرقاً واحداً فإن الغرب ليس غرباً واحداً, ففي كل منهما جوانب مشرقة وجوانب مظلمة. الجوانب المشرقة من كليهما تلتقي على أرض واحدة, أرض مشتركة. فيها تنوع وتبادل أفكار, وفيها أدب وفنون وإستيعاب لحضارات الآخر وإحترام له. الأرض المشتركة, أو بلغة ونحت أهداف سويف الـ "ميتزاتيررا", هي حيث يلتقي العقل الذي ينتقي ما يتآلف معه من مفردات الثقافات الأخرى, فيتمازج معها من دون توتر, وينقي العفوي منها من الإستعماري وهو ما كان سمة ثقافة الخمسينات والستينات.

تصف سويف كيف كانت مصر الستينات, وكذا كان أكثر من بلد عربي, غنية وجاذبة يتوافد عليها أجانب غربيون وتتوافد عليها ثقافات تختلط بالمصريين فتتمازج الأذواق والإهتمامات. إنجليز وفرنسيون ويونانيون وطليان وأتراك بثقافاتهم وفنونهم واهتماماتهم يمتزجون بالمصريين من القاهرة إلى الأسكندرية إلى أسوان وعبر النيل.

 من مصر ومن العديد من البلدان العربية صدرت أصوات وآداب وشعر وفن يغني لنضالات أمريكا اللاتينية وأفريقيا وفيتنام تعبيراً عن تضامن الجرح الواحد ضد الإستعمار الباسط جيوشه على إمتداد قارات العالم. لم يكن دين المضطهدين ولا جنسيتهم ولا إنتماءاتهم تحول دون إعلان التضامن معهم والوقوف معهم ضد الظلم وضد مصادره أياً كانت. لم نكن قد إنحدرنا إلى التصنيفات الإيديولوجية والدينية التي انزلقت بنا إلى مهاوي التردد في إعلان التضامن اللامشروط حتى مع ضحايا كارثة إنسانية من نوع تسونامي.

أهداف سويف الكاتبة والروائية المصرية التي تقيم في بريطانيا هي إسم معروف للكثير من البريطانيين, فقد أطلت عليهم من خلال رواياتها وكتاباتها وحضورها الدائم والمؤثر والمحبب في المشهد الثقافي والصحفي البريطاني.

 أصدرت أربع كتب وروايات, منها خارطة الحب التي رشحت سنة صدورها لجائزة بوكر الرفيعة للأدب لكن حجبت عنها بسبب ما أثير من لغط صهيوني حولها بكونها تتضمن مواقف ضد إسرائيل. كتاباتها الصحفية, وخاصة في صحيفة "الغارديان" لا تجامل, وتنقل دائماً "صورة الألم العربي وتحديداً الفلسطيني من الداخل", وكانت قد أوفدتها الصحفية عدة مرات كي تنقل نبض الشارع في القدس ورام الله والقاهرة.

وكان أن نشرت نصوصاً بديعة بعضها ترجم إلى العربية, وبعضها ظل بين طيات الصحف. كتابها الجديد يعيد الحياة إلى النصوص التي نشرت هنا وهناك وما زالت حروفها وثيقة الصلة براهن الحياة. وهي نصوص تمتد على مدار عشرين عاماً, لا تنقل سيرة شخصية أو إنطباعات فردية, رغم أنها تتلون بذلك, بل ترصد تحولات سياسية وثقافية وإجتماعية تُرى من وجهة نظر عربية أستوطنت في بريطانيا. وهي الآن تجمعها في كتاب ثري ومتنوع تحت عنوان "ميتزا تيررا: الارض المشتركة". 

هم أهداف سويف كما هو هم أي مثقف إنسانوي هو المصير الأليم الذي يحيق بـ "الأرض المشتركة" التي تتفتت على وقع جيوش إمبرطورية المحافظين الجدد. لكن الوضع الراهن لم يأت من فراغ, بل تراكم خلال عقدين من الزمن. فخلال عقدي الثمانينات والتسعينات بدأت الشقوق الكبيرة تدب في الأرض المشتركة وينتشر العداء بين مكوناتها. فهنا اعتبر الإسلام وأهله العدو الأول للغرب فوقع شرخ كبير في قلب تلك الأرض, له خلفية تاريخية عميقة.

وإن كان على منظري الغرب في توصيفهم للإتحاد السوفياتي كأمبرطورية شر أن يشيدوا تلك الأمبرطورية من الصفر حتى يجيشوا العداء لها, فهم في حال إستعداء الإسلام وإعتباره "العدو" لم يحتاجوا إلى البداية من الصفر, بل إستدعاء العداء التاريخي والكولونيالي. فهنا أصبح "الإرهاب الإسلامي" هو العدو الأكبر وقامت الماكنة الإعلامية الغربية بالتورط في خلق صورة وحشية لهذا "العدو" عوضاً عن الإتحاد السوفياتي.

 ولئن كان إرهاب الجيش الإيرلندي قد عُزي دوماً إلى أسباب سياسية ولم يكن يوصف بأنه "إرهاب كاثوليكي", ولئن كانت نضالات المؤتمر الأفريقي في جنوب أفريقيا توصف بأنها "إرهاب المؤتمر الأفريقي" وليس "الإرهاب الأسود" أو "الإرهاب الأفريقي", فإن الإسلام وحده نسبت إليه أعمال معتنقيه, وصار وصف "الإرهاب الإسلامي" شائعاً وعادياً.

وهكذا تحالف إنحطاط فكري وسياسي شامل ضد المشتركات, وجد صداه لدينا في ضمور النزعات الإنسانية وبروز ردود الفعل الأصولية المنكفئة التي لم تعد ترى في العالم برمته إلا تنويعات من الأعداء.

في حقبة ما بعد سبتمبر 2001 تشظت الأرض المشتركة أكثر وأكثر, وسقطت تحت أقدام المحافظين الجدد في الولايات المتحدة, الذين يريدون إعادة إنتاج أرض هيمنة لا مجال فيها للشراكة.

على الضد من ذلك يجب أن يكون الهم الإنسانوي الكبير هو إعادة الإعتبار إلى ال"ميتزاتيررا" الإنسانية الموسعة في جو طافح بالعداء. إعادة إنتاج الأرض التي تتصف بذلك التعدد الجذاب والمتلاقي على المشتركات الكثيفة.

على تلك الارض تلاقت أجناس وبشر مختلفون, وعليها قام إستعمار وقامت مقاومة, وتتالت أجيال. وهي أجيال أبقت جوانب الفن والثقافة والإغتناء الغربي, وفي نفس الوقت قاومت جوانب الطغيان والطمع والإستعمار في الغربي نفسه.

على ذلك فإن الحفاظ على طوباوية الـ "ميتزاتيررا" تحتاج إلى جهد خارق في كل ثقافة ذاتية, لكبح جماح التطرف الذي يؤدي إلى لم الجميع تحت مصنف عدائي واحد. فمعادة الغرب الإستعماري يجب أن لا تعني معاداة فكر الحداثة الذي ولد في الغرب, ولا معاداة الجوانب الغنية في ثقافة الغرب وأدب الغرب وفنون الغرب.

ولعل أفضل استشهاد يعزز هذه الفكرة هو ما أوردته أهداف سويف عن إدوارد سعيد إذ يقول: "إن ما ميّز حركات التحرر الثقافي الكبرى التي واجهت الإمبريالية الغربية هو أنها سعت إلى التحرر لكن ضمن نفس الفضاء الخطابي المتواجدة فيه الثقافة الغربية", أي أن مقاومة الإمبريالية الغربية هي باستخدام خطاب الحداثة الذي أفرزه الغرب نفسه.