أزمة الثورة الصناعية الرابعة

حلت "الموجة الثالثة" المتشكلة حول الحوسبة والشبكية والروبتة والتكنولوجيا الحيوية؛ والعالم الثالث ما يزال مشغولا بالفجوة في التقدم المؤسسي والصناعي مع العالم الأول، وهكذا فقد غادرنا "الصناعة" دون صناعة ومضينا مع العالم في "اقتصاد المعرفة والإبداع" من غير أن يكون لدينا تشكلات اقتصادية اجتماعية حقيقية، وكنا في أثناء ذلك نتخلى بسرعة عن التشكل الاقتصادي الاجتماعي الزراعي. وحين بدأت موجة الحوسبة والتشبيك تأخذ مكانا في عالم العرب كانت أزماتها في العالم قد بدأت تفرض نفسها، هكذا فإننا نقتبس اليوم الثورة الصناعية الرابعة ومعها أزماتها، والحال أنها كانت موجة سريعة جدا في تشكلها وتطورها الأقرب إلى الانفجار ثم في أزمتها، حدث ذلك في سبعين سنة أو أقل، لكن الثورة الصناعية التي سبقتها بدأت في التشكل والتبلور في القرن الثالث عشر وتطورت ونضجت في القرن الثامن عشر ووصلت إلى ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر، ثم وصلت إلى نهايتها أو أزمتها في منتصف القرن العشرين، فهي موجة طولها أكثر من سبعمائة عام، بحيث استوعبها العالم بالتدريج، وأما الثورة الزراعية التي سبقت الصناعية فقد ظلت تتشكل وتتطور وتنضج على مدى اثني عشر ألف عام! عندما أطلق آلن تورينغ مشروعه العلمي لمعالجة المعلومات معالجة منطقية في أوائل الخمسينيات بدا ذلك خيالا غير متصور، ومضى في حالة اكتئاب أدت إلى انتحاره في مثل هذا اليوم (27 حزيران) العام 1954 لكننا اليوم بعد أول حاسوب صنع في العام 1948 نصل إلى المرحلة التي احتاج العالم سبعمائة سنة للوصول إليها في ظل الصناعة، فقد انهار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية في أواخر الثمانينيات، وواجه العالم ما سمي "فقاعة الإنترنت" في العام 2000 ثم دخل في أزمة مالية كبرى وعميقة في العام 2008، ثم دخل إقليم الشرق الأوسط في حالة من الفوضى والصراع والتوتر صار يرمز إليها عالميا بـ "الربيع العربي" وهي في واقع الحال على خلاف تسميتها حالة عالمية لكنها أخذت في عالم العرب مسار الفوضى. يقول المفكر المستقبلي جاك أتالي: تتحول الإنترنت إلى قارة سابعة، وإلى قوة في ذاتها، وكيان مستقل، وتدير وتحرك أنظمة مالية واجتماعية وثقافية خارج السلطة السياسية والثقافية، حتى المركزية الأميركية المنشئة للإنترنت تتعرض للتحدي والأزمة. وفي هذا التركيز للناس في المدن والمصحوب بتشوهات في العمل والأجور تتكون طبقات واسعة من المهمشين والمحرومين والغاضبين، وتضعف المؤسسات والمرافق والخدمات العامة للمدن، وهو ما يمكننا ملاحظته بوضوح في الأردن حيث تمضي المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية إلى العجز والشلل، وربما الفناء والتبخر!! .. لقد حصلنا على أزمة الثورة الصناعية الرابعة ولم نحصل على منافعها! فالمواطن يتحمل اليوم فردا مسؤولية ونفقات الماء والطاقة والصحة والتعليم والتكافل الاجتماعي والاتصالات والنقل، وتلتهم معظم دخول الناس، بل إنها تزيد عليها؛ في حين نتذكر حين كانت هذه الخدمات جميعها لا تشكل نسبة تذكر من دخل الفرد. لقد عبر الرئيس الأميركي ترامب وإن بدا ذلك بتهور وفجاجة عن هذه الأزمة، حين وجد أن الشركات والمصانع الأميركية تهاجر إلى الصين، وأن اتفاقية التجارة الحرة تشكل خسائر هائلة للولايات المتحدة الأميركية، وأن المواطنين الأميركان يتعرضون إلى منافسة في العمل والأجور جعلت دخولهم تتآكل، وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة تقدم للعالم التزامات عسكرية وأمنية واقتصادية وتكنولوجية أكبر بكثير مما تحصل عليه، ويبدو واضحا أن أزمة الولايات المتحدة مع الصين وأزمتها مع حلفائها الأوروبيين كما بقية العالم هي المشاركة في الالتزامات والمنافع المتأتية، لكن الإنترنت والتكنولوجيات المصاحبة مازالت خارج السيطرة وتنشئ متوالية معقدة في الأعمال والموارد والمؤسسات وسيادة الدول وعلاقاتها كما الثقافة والقيم على نحو لا تفيد في مواجهته أو ترشيده الأدوات والإجراءات التقليدية المتبعة اليوم!اضافة اعلان