أزمة الرأسمالية وأوهامها

سنة 2008 شهدت أميركا أزمة مالية كبيرة طالت الرأسماليات الأخرى. لم تحل الأزمة بعد، ولم تتوقف أفاعيلها. وأميركا تنتظر انفجاراً جديداً بعد أن أصبحت مديونيتها أكثر من مجمل دخلها القومي. ولقد دخلت معظم بلدان أوروبا بالأزمة من خلال تراكم مديونية عليها فاقت دخلها القومي.اضافة اعلان
لقد تراكمت الثروة بيد أقلية ضئيلة جداً وأصبحت الشعوب والدول في أزمة مالية كبيرة. وعملت البلدان الأوروبية من أجل حل أزمة المديونية على فرض سياسات التقشف التي تعني انهيار الوضع المعيشي لقطاع كبير من الطبقات المتوسطة والعاملة.
والتقشف لن يحلّ المشكلة لأن تراكم المال يذهب إلى تلك الأقلية التي لا تني تضخم من ثروتها بدون أن تعرف ماذا تفعل بها سوى الدخول في المضاربة والديون والنشاط المالي متعدد الأشكال. وهو الوضع الذي يهزّ الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات)، بدون أن يضيف فائض قيمة (الذي يتحقق فقط عبر العمل)، ويعمّق من مقدرة الشعوب على العيش.
هذا كان في أساس الانتفاضات العربية، وفي أساس الإضرابات وكل أشكال الاحتجاج التي باتت تعم عدداً من البلدان الأوروبية (اليونان وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا خصوصاً)، وبدأ يحرّك الشعوب ضد "وول ستريت"، التي تمثّل جشع المال وقدرته التدميرية. ولهذا أصبحت المطالبة بتدمير وول ستريت تقوى في أميركا، وتتوسع عالمياً.
لقد أصبح المال يهيمن على الرأسمال، هذا هو وضع العالم اليوم. ونعني بأنه إذا كان الرأسمال، بالمعنى الاقتصادي، يعني المال الموظف في قوى الإنتاج (الصناعة والزراعة) وفيما يكملها من تجارة وخدمات، وهو ما يسمى الرأسمال المالي، فإن تشبّع الأسواق من خلال ضخ مبالغ طائلة في هذه القطاعات جعلتها لا تستطيع استيعاب توظيف مالي جديد، فرض تحوّل الأرباح الهائلة التي تتراكم (فالرأسمالية تتسم بفيض الإنتاج وفيض الأرباح معاً) إلى نشاط مالي محض (وهو ما كان يسمى في القرون الوسطى بالربا). سواء تعلّق الأمر بالديون أو بالمضاربة على العملة والسلع والعقار، أو بنشوء أشكال جديدة هي تنويع على النشاط المالي (تسمى المشتقات المالية). هذا المال، بعد أن لم يعد رأسمال، هو الذي أصبح يعمّق من أزمة الرأسمالية، ويدفعها من انهيار إلى آخر، ومن تراكم مشكلة إلى تضخمها. بالتالي أصبح يخلق فوضى عالمية تقود إلى انهيارات اقتصادية متكررة، والى انهيار الوضع المعيشي لقطاعات كبيرة من شعوب العالم.  فهذا النمط من النشاط يضخّم من الأسعار بدون أن يحقق فائض قيمة، وبالتالي يؤسس لنشوء فقاعات سرعان ما تنفجر، فتهلك فئات اجتماعية واسعة.
فمثلاً مجمل الدخل العالمي هو حوالي 44 تريليون دولار، بينما بلغت حركة المال ألفي تريليون دولار، أي ما يقارب الخمسين ضعفاً. والفارق هنا يمثّل تضخم قيم ولا يعبّر عن إنتاج حقيقي. وفي هذا الوضع طبعت الولايات المتحدة ما يقارب الـ 600 تريليون دولار، بينما يبلغ ناتجها القومي الـ 14 تريليون دولار.
هنا نلمس تضخم المال، وتحكّمه بالرأسمال. وهو الأمر الذي يغرق العالم في أزمة لا حل لها، وتفرض انهيار الوضع المعيشي ليس في الأطراف فقط بل في بلدان المراكز كذلك. ويبدو أنه بات يستنهض موجة عالمية ضده، ربما كانت تطويراً لحركة مناهضة العولمة التي بدأت منذ بداية هذا القرن.
لكن هناك عندنا من لا يزال يحلم بالرأسمالية.