شروق جعفر طومار
رغم تزايد الاهتمام باللغة العربية في السنوات الأخيرة من قبل بعض الجهات المهتمة، ووجود العديد من المبادرات المؤسسية والفردية، إلا أن الفجوة بين الأجيال الجديدة واللغة العربية السليمة آخذة بالاتساع على نحو ينذر بضياع اللغة إن لم يتم تشخيص المشكلة بشكل دقيق، والعمل على إيجاد حلول عملية لها.
تعاظم الفجوة بين النشء واللغة وحالة الضعف العامة في اتقان مهاراتها بين أبناء هذه الفئة مرده لأسباب عدة متشعبة ومتشابكة، لا يمكن النظر لأي منها بمعزل عن الآخر، كما لا يمكن تحديد نقطة بداية الخلل، لكن بدون شك يمكننا أن نضع أيدينا على عدد منها.
أحد أبرز التهديدات التي تواجه اللغة العربية هو الميل الشديد لتبني اللغات الأجنبية وخاصة الانجليزية بشكل طاغ على العربية، في جانبين رئيسيين؛ الأول: في اللغة المحكية في الحياة العامة، نتيجة الاعتقاد السائد لدى أبناء الجيل بأن استخدام اللغة الأجنبية في أحاديثهم سيجعلهم أكثر “عصرية”، وهذا الشعور نابع بشكل رئيس من انعدام الاعتزاز بالهوية العربية، إضافة للشعور بأن اللغة الأجنبية هي لغة الآخر “الأقوى”.
والثاني: كلغة تعليمية في المحتوى الأكاديمي، والحقيقة أن القصور الكبير في المحتوى العربي خاصة الإلكتروني منه ساهم بشكل كبير في ذلك، فالانتاج العلمي باللغة العربية ضئيل جداً بالمقارنة باللغة الانجليزية، إضافة إلى أن الترجمة من الانجليزية إلى العربية ما تزال ليست بالقدر المطلوب لتوفير محتوى علمي يمكن الاعتماد عليه باللغة العربية.
وبمحاذاة ذلك فإن العملية التعليمية خلال المرحلة الدراسية والتي تعاني من جوانب ضعف عديدة تسهم في مفاقمة المشكلة، فالطلبة غالبا يشكون ضجرا من حصة اللغة العربية لما تفتقره المناهج من حيوية، وما تتسم به من جفاف وجمود، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم امتلاك المعلم – المتخرج هو الآخر من ذات العملية التعليمية- للأدوات اللازمة لتحويل حصة اللغة العربية من وقت ثقيل إلى فسحة يعمل من خلالها على تطوير الذائقة الجمالية اللغوية لدى الطلبة بشكل يسهم في التصاقهم النفسي باللغة.
ومع الاعتراف بأن التعليم الجامعي لن يكون بأي حال من الأحوال قادر على ترميم ما يفترض بناؤه على أسس متينة خلال سنوات المدرسة، إلا أن جامعاتنا أيضاً مقصرة في هذا المجال، فالأصل أن تتبنى الجامعات خططاً لأنشطة طلابية متنوعة وبصيغة عصرية جاذبة وغير تقليدية تعمل على إعادة التصاق الجيل بلغته، وتحفزه على العودة إليها، وتكرس لديه الاعتزاز باللغة والهوية العربية.
هناك أيضاً أسباب أخرى للمشكلة، فاجتياح اللغات الهجينة أو ما يعرف بـ “العربيزي” كلغة للتواصل على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة بين أبناء الجيل الناشئ إضافة إلى الكتابة بالعامية وبكم هائل من الأخطاء الإملائية، يشكل تهديداً حقيقياً على لغتهم حيث أن قلة التعرض للغة السليمة يؤدي مع الوقت إلى فقدانها تدريجياً ، ويزيد من احتمالية تسلل هذه الأخطاء إلى الكتابة في الجوانب الرسمية.
ولا يقل عن ذلك خطورة، سيادة اللهجة العامية في معظم وسائل الإعلام المحلية والعربية، والتي ينبغي لها أن تلعب دوراً رئيسياً في حماية اللغة العربية من خلال الحرص على استخدام الفصحى وتجنب العامية أو على الأقل تقليص استخدامها للحدود الدنيا.
أزمة اللغة العربية لدى الأجيال الناشئة أزمة حقيقة، أسبابها شائكة ومتعددة، لكن الإدمان على الحديث عن “الأزمة” دون تحديد الأسباب وفهما ورصد مكامن الخلل ومحاولة معالجتها بشكل جاد، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الاحباط والشعور بالانهزام والفشل وتعميق تلك الأزمة.
فالقضية إذن تحتاج إلى مناضلين حقيقيين، يؤمنون بأهميتها وخطورة إهمالها، ويحملون على عاتقهم مهمة حماية اللغة وإعادة إحيائها، فحماية اللغة مسؤولية وطنية تتطلب وجود نية حقيقة وإرادة فعليه تترجم إلى إجراءات عملية فاعلة ومستدامة، وتتوحد فيها كافة الجهود والقوى.