أزمة ثقة طاحنة

في فنلندا التي كانت قبل بضعة عقود في عداد الدول النامية، لا توجد امتحانات مدرسية عامة في أي مرحلة. وفي تفسيرهم لهذا الاتجاه يقولون: إنهم يثقون بالمعلمين والمعلمات، وبالتالي لا يحتاجون إلى مثل هذه الامتحانات التي تلغي الثقة بهم. كذلك، يثق المعلمون والمعلمات بالإدارة أو الوزارة، ويثق التلاميذ والأهلون بالمعلمين والمعلمات، ويثق المعلمون والمعلمات بالتلاميذ والأهلين.اضافة اعلان
في بلدان أخرى، لا تتوفر الثقة بأشكالها المختلفة السابقة، على مستوى المدرسة والجامعة. في هذه البلدان، لا يثق البائع بالمشتري ولا المشتري بالبائع، ولا المريض بالطبيب ولا الطبيب بالمريض، ولا يثق المساهم في شركة بإدارتها ولا تثق إدارتها به... وحتى الثقة باللصوص تراجعت، فقد كانوا يسرقون في الليل والناس نيام، ثم صاروا يسرقون في النهار والناس قيام!
إن الثقة في هذه البلدان منعدمة تماماً أفقياً وعمودياً ودائرياً، وكل واحد فيها يده له. ولذلك تسيطر شريعة الغاب عليها. ومع هذا يتظاهر الجميع بالصلاح والتمسك بأهداب الدين، وإن كان المصلون لا يثقون بالإمام أو الخطيب، ولا يثق الإمام أو الخطيب بهم.
لعل هذا كله هو السر في ليس "مكانك قف"، بل في التقهقر والانحدار والخراب.
***
لماذا يرفض الأيديولوجيون السياسيون والحزبيون، تغيير قناعتهم، حتى وإن ثبت عيبها أو خطؤها أو خطرها عليهم؟ في الإجابة عن ذلك، يرى بعض المفكرين، مثل غاي هاريسون (Think, 2013)، أن الأمر يعود للعوامل التالية (بتصرف): لأن لديهم شعوراً بالتفوق؛ أو لشعورهم بأن الناس بحاجة إليهم ولا يستغنون عنهم (بهذه الأيديولوجيا)؛ أو لأن قبول الفكرة الجديدة أو الدليل الجديد يعني ظهورهم أغبياء طيلة المدة السابقة، وأنهم يؤمنون بما لا يفترض فيهم أن يؤمنوا به؛ أو لأن التغيير في نظرهم علامة ضعف أمام الزملاء أو الأتباع أو الناس؛ أو لأن المحافظة على السمعة تتقدم على الحقيقة الجديدة أو الدليل الجديد.
وعليه، لا يتغير هؤلاء عقداً وراء آخر، مما جعلهم يوصفون بالأصوليين بمختلف أنواعهم. ولذلك قلما يقرأ اليسار ما يكتبه اليمين (أو الإسلاميون) عنهم، وقلما يقرأ اليمين ما يكتبه اليسار عنهم، وقلما يقرأ الطرفان ما يكتبه طرف ثالث ناقد أو موضوعي عنهم. إن كلاً منهم شاغلٌ نفسه بعمل قوائم بالناس المعادين لفكره. وما إن يرى الواحد منهم اسم هذا المعادي أو ذاك تحت عنوان ما، حتى يزيح نظره عنه لأنه يخدع نفسه بأنه يعرف سلفاً ماذا سيقول.
نعم، قد ينقلب أحد من هذا الطرف أو ذاك على الأيديولوجيا أو الحزب أو الجماعة، بتأثير الصدمة أو لفساد الرموز، ولكن الأكثرية الساحقة تبقى تابعة ومتمسكة، لأن الاعتقاد عند هؤلاء يسبق البرهان لا العكس.
نحتاج في هذا العصر إلى التفكير الناقد والشك المنهجي أو العلمي، وإلى الابتكار والإبداع، لضمان البقاء الناجح في خضم العولمة. ولكن ذلك غير موجود، لأن الأطفال في البيت، والتلاميذ في المدرسة، والطلبة في الجامعة، لا يُرَبَوَّن عليها، فيعيدون إنتاج جيل آبائهم وأمهاتهم ولا يحدث أي تقدم، لأن التغير أو التكيف مع متطلبات العصر يحتاج إلى إعادة التفكير في القيم والمعتقدات والفرضيات وحتى الهوية، وهو أمر صعب جداً على الكثير منا، لشعورهم أن تلك النظم التي تحميهم تسقط بهذا التغير أو التكيف. ولعله لهذا تنشأ مناعة ضد التغير تتناسب طردياً مع شدة سيطرة اليقين أو القيم والمعتقدات والفرضيات والهوية على المرء.
وأخيراً، فإن هدفي من كل ما أكتب تحرير الإنسان من الأوهام والإرهاب الفكري التكفيري الذي يمنع طرح الأسئلة وقبول التغيير.