أسطرة الدين

Untitled-1
Untitled-1

د. هاشم غرايبة

يتعلق الناس بالأساطير، سواء كانوا شعوبا متقدمة أم متأخرة، ولازمت البشرية منذ القدم، وامتزجت بالتراث الفكري والأدبي، لكنها في العصور الحديثة أصبحت بأطر مختلفة، اغلبها مما يطلق عليها الخيال العلمي.اضافة اعلان
ولما كان الدين مبنيا على الإيمان بغيبيات معينة، لذا وجده بعض الدعاة مبررا لنسجهم قصصا ترقى الى مرتبة الأساطير، مجيزين لأنفسهم نسبة تأليفاتهم وابتداعاتهم الى الأولياء والصالحين الافتراضيين أو الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجتهم أنهم حسنو النية ويريدون إصلاحا وتقويما للنفوس.
هنالك أمثلة كثيرة على ذلك، سأعرض لأشهرها وأكثرها تناقلا على ألسنة الوعاظ وشيوخ المساجد، وأوردها تاليا على سبيل المثال لا الحصر.
المثال الأول في نسبة قصة خرافية الى النبي صلى الله عليه وسلم لتحصينها من التمحيص والنقد: مثل تلك التي تحكي عن ثلاثة رجال دخلوا مغارة فتدحرجت صخرة على بابها فسدتها، وعبثا حاولوا زحزحتها، فلما يئسوا قال احدهم، ليتذكر كل واحد منا عملا صالحا فعله بينه وبين الله، ولم يعلم به أحد، وليدع الله أن يزيح عنا الصخرة ببركة ذلك العمل.
ثم تمضي القصة في منحى درامي، فيتحدث أولهم بعمل يحتسبه عند الله، وهو أن له أبوين يعيلهما مع أولاده من حليب شاة يحلبها، فيسقي الأبوين أولا، وما يتبقى يقدمه لأولاده، وفي أحد الأيام بكى أطفاله عشاء من الجوع، فحلب الشاة وذهب ليسقي الأبوين أولا لكنه وجدهما نائمين، فكره أن يزعجهما فظل قائما ينتظر استيقاظهما، فما استيقظا إلا على أذان الفجر فسقاهما ثم سقى الأطفال الباكين جوعا.
تقول القصة إن الصخرة تزحزحت ثلث المسافة ، لكنها تزحزحت ثلثا آخر مع كل رواية لقصة رواها الاثنان الباقيان.
اختصارا، لن أذكر القصتين الأخريين اللتين لا تقلان غرابة ولا بعدا عن المنطق من القصة الأولى، ولنناقش قصة الرجل الأول، والتي يقصد منها الحث على بر الوالدين.
القصة بعيدة عن التصديق لأنها منافية لطبائع النفس البشرية، بدلالات عديدة، أولها أنه لا يوجد في صفات الأب أو الجد تلك الأنانية التي تجعله يقبل أن يتناول طعاما ويشبع منه ثم لا يقدم لأطفال جياع إلا ما يفيض عن حاجته، فحتى الكائنات الحيوانية تطعم أولادها أولا.
والثانية أنه ما هي تلك العائلة التي لا مصدر لعيشها إلا حليب شاة، وأين العمل وكسب الرزق الذي هو واجب على هذا الرجل الذي يدعي الصلاح والتقوى، ألا يستحق من الله العقاب لتقصيره في السعي لكسب الرزق، كون العمل عبادة؟.
والثالثة: إن مسؤولية الأب تجاه إطعام أطفاله تجعله مقصرا يحاسب عند الله على تركهم يتضورون جوعا حتى مطلع الفجر، ألم يدخل الجنة رجل سقى كلبا عطشانا، ودخلت النار امرأة حبست هرة فمنعت عنها الطعام، فهل يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حض على الرأفة بالحيوانات أن يستحسن فعل رجل جوّع أولاده مع قدرته على إطعامهم وترك نصيب لوالديه، واللذين لن يضيرهما بكل تأكيد ذلك ولا يعتبره الله عقوقا لهما.
المثال الثاني، ويأتي في نقل روايات لا تصدق عن المبالغة في التعبد والتنفل، كمثل تلك التي تروى عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنه صلى الفجر أربعين عاما بوضوء العشاء.
بالطبع يأتي الشك في المصداقية من كون من يفعل ذلك يعني أنه لم ينم ليلا طوال أربعين عاما، وبما أن البشر لا يمكنهم الحياة بلا نوم، فهل كان من طينة غير بشرية، أم أنه كان ينام نهارا … وإذا متى كان يعمل لكسب قوته والإنفاق على عياله والتصدق والإحسان للفقراء؟ ومتى كان يجد الوقت ليفتي للناس ، والوقت لعقد الندوات لتدريس تلاميذه ومحاورة مناظريه وشرح علمه..الخ.
والأهم من كل ذلك، هل هو مختلف فيزيولوجيا عن البشر حتى يمكنه مغالبة النعاس وعدم قضاء الحاجة لاثنتي عشرة ساعة على الأقل يوميا ..ولأربعين عاما متواصلة!؟.
المثال الثالث يستعمله بكثرة أولئك الذين يدعون الى حبس المرأة في البيت وتغطية وجهها، ويتمثل برواية منسوبة الى النبي صلى الله عليه وسلم تتناول قصة فتاة دخلت النار لأنها لم تكن تخفي وجهها عن الناس، فقالت لله عز وجل: والله لا أدخل النار حتى أدخل أبي معي لأنه لم يجبرني على ذلك.
الرواية كما تظهر وضعت لتخويف الآباء وتحميلهم المسؤولية عن أفعال أبنائهم.
ولو تجاوزنا عن أهم ناقض لها وهي منافاتها للتشريع، فلم يرد أي نص يوجب تغطية المرأة لوجهها بل هنالك حديث صحيح يوجب ألا يظهر من المرأة غير وجهها وكفيها، والدليل القطعي على أن هذه القضية من وضع المتشددين أنه لا تقبل صلاة المرأة التي تغطي وجهها، والدليل الاستدلالي أنه لا يمكن أن يعذب الله إنسانا بجرم غيره، والأهم من كل ماسبق أنه كيف لأحد أن يعترض على حكم الله بدخوله النار، وكيف يمكنه أن يرفض ذلك ويفرض شرطا لقبوله!؟… فهل يمكن لهذه القصة مع كل تلك التناقضات أن تنتسب الى الأحاديث الشريفة!؟.
ما أوردته ثلاثة أمثلة من كثير غيرها، لتدل على حجم الإعتداء البشري على الدين، ومحاولة تلبيسه أساطير وروايات تخدم أغراضا مختلفة.
لقد جرى وضع هذه الأساطير على أزمان متفاوتة، بدأت مع ترسيخ مبدأ الحكم العضوض، لتحويل اهتمام الناس عن مخالفة الحكام لمبادئ الحكم الشوري الى قضايا العبادات والتعاملات الفردية، وجعل مناط الدين الإصلاح الفردي وترك مهمات النظام المجتمعي العام لأنظمة الحكم، ثم دخل المتشددون من هذه الثغرة فألبسوا عقدهم النفسية لباس تشريعيا، وجعلوا هواهم هو مناط الدين، واستفادت السلطات على مر العصور من ذلك لأنها تلهي الناس بالجزئيات عن ملاحظة العيوب الكبرى في تحكيمهم للدين في حياة المجتمعات.
وما يزال هذا التحالف المربح للطرفين قائما الى اليوم.
وعليه فإن أسطرة الدين هي بلا شك من الأدوات الرئيسة التي استخدمت لإبعاد الدين عن الواقع المعاش، أي فصل قوة الدين عن التأثير السياسي في الدول، وترك المجتمعات لفساد الفاسدين ونهبا للطامعين.
السلاح الفعال لتثبيت رواياتهم كجزء أساسي من العقيدة هو الاحتجاج بورودها في صحيح البخاري، وعلى الرغم من الجهد الضخم المبذول في هذا الكتاب لتصحيح الأحاديث، فلا يمكن الوثوق بقطعية الصحة، فلا كتاب محصنا من الطعن إلا كتاب الله عز وجل، فهو فوق النقد والتمحيص، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يُرَدُّ ولا يناقش، فهو تشريع مفصل وموضح للقرآن، كما أنه يخصص المعمم منه، لكن ما يناقش هو الروايات وصدقية انتساب الرواية.
لقد وجد العلماء حجما هائلا من الأحاديث المنسوبة الى النبي صلى الله عليه وسلم، إن الإيمان بأن السنة مصدر مكمل يجب أن يدفعنا لعدم السكوت على اختراقات بعض ذوي الأغراض الخاصة لدس أهوائهم ورغباتهم من خلال وضع أحاديث، أو تشويه ديننا من أجل إظهار أنه مجرد أساطير.
إن مناقشة محتويات كتب الفقهاء والعلماء أمر جائز، وقد قام الشيخ صالح الشامي بجهد عظيم في كتابه "معالم السنة النبوية" ونال كتابه هذا تقدير كل علماء الحديث، فقد حصر الأحاديث الصحيحة الواردة في جميع كتب الحديث الأربعة عشر، فوجد أنها 114194 حديثا، ومجموعها في مشروعه، بعد حذف المكرّر 28430، ثم دقق فأزال كل الأحاديث الضعيفة فلم يبق من أحاديث مؤكدة الصحة سوى 3931، وكان من هذه الأحاديث 2131 حديثا من صحيحي البخاري ومسلم أي ما نسبته 55 % من الأحاديث المؤكدة الصحة، ولو افترضنا أنها جميعا من صحيح البخاري الذي يضم 7563 حديثا، فكم حديثا فيه لا يصح نسبته الى النبي صلى الله عليه وسلم؟.
فإذا ما علمنا أن الشيخ صالح الشامي رحمه الله عالم كفؤ عدل لم يطعن أحد في استقامته، ولم يدّع عليه أحد من المتشددين بأنه مشكك في السُنّة.
نخلص إذاً الى القول أنه لا يجوز تقديس صحيح البخاري، ولا صحة لرأي من يقول أنه المرجع الثاني المؤكد الصحة بعد القرآن، وبالتالي لا يمكن القول بأن ما ورد فيه مقطوع بصحته، بل يجوز نقده وتمحيصه .