أصوات مستفزة

المعركة لم تكن هينة أبدا، ونتائجها لم تكن محسومة أيضا بالقياس على سياسات إسرائيل وعنجهيتها، وهي التي لطالما خالفت التشريعات والأعراف الدولية ولم تحترم الاتفاقيات يوما، فهي دولة رعت أطول احتلال وآخر احتلال على وجه هذه البسيطة.اضافة اعلان
وقعت الحادثة قبل ستة أشهر؛ قُتِل مواطنان أردنيان، وخرج كادر السفارة الإسرائيلية، فشعر الأردنيون بالإهانة وجرح الكرامة، ولم يبدد ذلك الشعور شيء من الكلام والعهود، وظل الإحساس المرير مرافقا للناس، حتى ظنوا أن القصة ستدفن كما غيرها، وان حقهم ضاع.
الملك وقف مع الشعب وصرّح أن حق الأردنيين لن يضيع، وأن على إسرائيل احترام المواثيق ودفع ثمن ما ارتكبه قاتل السفارة، ووسّع الملك المطالب بإعادة فتح ملف القاضي رائد زعيتر الذي قتل هو الآخر على يد جندي محتل في العام 2014، وكانت قصته بدأت تجف، وظن الناس أنها انتهت.
المطالب الأردنية كانت ثلاثة واضحة لم تتزحزح عنها الدولة ولطالما كررتها؛ لا عودة لعمل السفارة إلا بالاعتذار، ومحاكمة القاتل وتطبيق القانون عليه كما تنص القوانين، ورهن الأردن مستقبل العلاقة مع إسرائيل بماهية تعاملها مع الحادثة، والتزامها بحقوق الأردنيين.
الملف لم يغلق يوما، وكانت المفاوضات حوله ماراثونية، وجولات طويلة من التفاوض ظل الأردن خلالها مصرا على التزام إسرائيل بشروطه الثلاثة، وتولى التفاوض من الجانب الإسرائيلي جهة أمنية بواسطة أميركية، وتمخضت عن انتصار دبلوماسي حقيقي يحسب للأردن وقيادته ومؤسساته التي ظلت ممسكة على حقوق مواطنيها، وضرورة تطبيق القانون.
الأمر المهم في هذا الانتصار الدبلوماسي، والذي قدمت إسرائيل لأجله كل هذه التنازلات، وورد في المذكرة الإسرائيلية أيضا، كان تقديرها الكبير الذي توليه لعلاقتها الاستراتيجية مع الأردن، وسعيها لتقوية التعاون، ورغبتها الشديدة باستئناف جميع أشكال التعاون بين البلدين.
النتيجة التي تمت كانت كفيلة بأن تجعل الأردنيين يتنفسون الصعداء، وأن يطمئنوا إلى أن كرامتهم لم تهدر، وأن حقوقهم لم تضع، إذ كانت ليلة الخميس الماضي وإعلان تفاصيل القبول الإسرائيلي بمطالب الأردن ردا على ليلة 24 تموز 2017 التي وقعت فيها الحادثة، ولم تغمض فيها عيون الناس قهرا على دمهم الذي سال على مقصلة دولة محتلة، وما تلا الحادثة أيضا.
الانتصار الأردني الأخير حمل معه مفاجأتين؛ الأولى أن إسرائيل رضخت للشروط الأردنية وهذا ليس من طبعها، أما المفاجأة الثانية فتكمن في ردود البعض وأصواتهم المستفزة وحملة التشكيك التي أطلقوها للطعن بهذا الانتصار الدبلوماسي المهم، ولجأوا إلى تداول معلومات أقل ما يقال عنها إنها مضللة وغير وطنية.
كاتبة المقال اطلعت على المذكرة الإسرائيلية التي تضمنت أربع نقاط أساسية؛ الأولى أن الحكومة الإسرائيلية ومن خلال وزارة خارجيتها ملتزمة بتطبيق القانون على القاتل وصولا لتحقيق العدالة، وثانيا أنها تعتذر عن حادثة القتل بحق الأردنيين وملتزمة بتعويض أسر الضحايا، وهو ما تم بالفعل، وقد تسلمت الأسر التعويض، رغم أن رئيس الوزراء نتنياهو لم يرغب بالإعلان عنه.
هذا الفريق شكك بما حققه الأردن اعتمادا على لا شيء إلا ضعف إيمانهم بالأردن، وبلغة يحق أن يقال عنها إنها مستفزة وغير مقبولة وتشكيكية، وكان يمكن قبولها لو أنها استندت إلى براهين وأدلة، وليس ادعاءات زائفة.
بغض النظر عما يروج له هذا الفريق، ومحاولاته التشكيك بما تحقق ومن رضوخ إسرائيل ورئيس حكومتها المستفز، انتزع الأردن حقه، وسمعنا من الإسرائيليين لغة لم نعتد عليها، وبالنتيجة حقق الأردن انتصارا دبلوماسيا في معركة السفارة، لكن ذلك لا يمنع من أن معركة القدس ما تزال مفتوحة، وأن الأردن يكاد يكون الوحيد الذي يقف في وجهها.
من حقنا ان ننتقد الأداء الحكومي حينما يحدث التقصير والإهمال، لكن من حق الأردن علينا أن نقدّر المنجز حينما يتحقق، ومن حق الدبلوماسية الأردنية علينا، كذلك، أن نقف إلى جانبها حين تخوض معركة شرسة مثل التي خاضتها، وأن نرفع لها القبعات حين تكون النتيجة استعادة كرامة مواطنينا، وخضوع الجهة المعتدية، وهي كيان لا يفهم إلا لغة القوة.