أعظم رجال القرن العشرين

برحيل نلسون مانديلا، بعد أن شبع من الحياة من دون أن يشبع العالم منه، ينتهي القرن العشرون بالفعل؛ بعذاباته وبالكفاح الذي لم ينته ضد العنصرية والتمييز، ولأجل حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير والكرامة. واذ لم تنته كل أشكال الاستبداد والاستعباد التي لم تنفك البشرية عن مواجهتها، فإن سيرة كفاح هذا الرجل تمنح الإنسانية الحلم بأن هذه المهمة ممكنة وغير مستحيلة. كان نلسون مانديلا بحق أعظم رجال القرن العشرين.اضافة اعلان
لا يوجد رجل أجمع العالم على تقدير نضاله كما حدث لمانديلا الذي حصل على جائزة نوبل للسلام، وفي الوقت نفسه على ميدالية لينين للنضال، من الاتحاد السوفيتي السابق. وقيمته النضالية والسياسية والإنسانية تبدو في حجم الاختراق التاريخي الذي أحدثه على صعيد قدرة شعوب جنوب العالم على انتزاع الحرية وحمايتها وبناء الديمقراطية، وذلك حينما واجه بنضال طويل ومرير نظام الفصل العنصري، واستطاع أن يؤسس لديمقراطية رفيعة تتجاوز إرث العذابات والاضطهاد.
 تصوروا حجم الإرث الإنساني الذي يتركه هذا الرجل، بعد 27 عاما قضاها في السجون، منها 18 عاما في الزنازين الانفرادية. إذ يعد إرثه في التأسيس للتسامح السياسي والثقافي مدرسة ثرية في نزع فتيل التوترات العرقية؛ فقد وضع دستورا جديدا، وأسس لجنة للحقيقة والمصالحة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، وجعل واحدة من أكثر الأمم تمزقا تجتمع على قلب ووعي رجل واحد. وتصوروا حجم الإرث الإنساني في النضال الذي بقي وفيا له حتى آخر أيام حياته، برفض التوقف عن مناصرة قضايا الشعوب لأجل التحرر والكرامة.
سيبقى مانديلا حتى في مماته يملك القدرة على إلهام العالم، ودفع ملايين البشر نحو صنع المستحيل، من أجل التغيير والقبول بالتعددية الإيجابية، ونبذ الكراهية والعنصرية وإحداث الفرق.
والمفارقة الأفريقية الكبرى تضعنا أمام سؤالنا الكبير والحرج في هذا الجزء من العالم، والذي تحول، للآسف، إلى متحف للكراهية ولأعمال العنف: كيف تتحول المجتمعات العربية ومجتمعات الشرق الأوسط بشكل عام هذه الأيام إلى حاضنة لتفريخ الكراهية ورفض التعددية؟ وكيف يُولّد استمرار الجذر العنصري المتمثل في الكيان الإسرائيلي المزيد من التعقيد في هذه الحالة التاريخية المستعصية والمعقدة؟
حينما خرج من السجن في العام 1990، لم يسع مانديلا إلى الانتقام أو الإقصاء، ولم يدخل في لعبة استقطاب وانقسام سياسي واجتماعي جديد؛ بل تفاوض مع السلطة القائمة آنذاك على فترة انتقالية ناعمة نحو الديمقراطية. وبعد أن أصبح رئيسا في العام 1994، لم يسجل عليه التاريخ أبدا إهانة أو تهميش البيض من الجنوب أفريقيين؛ داعيا في المقابل إلى تجذير المصالحة الوطنية، وتحويلها إلى جزء من الممارسة اليومية في الحياة.
الكثيرون في العالم تعلموا من هذه الخبرة الإنسانية الثرية، إلا هذا الجزء من العالم الذي ما يزال يقتتل على أشباه ثورات مسروقة.
من الدروس الأخرى التي تستحق المراجعة، كيف حافظ هذا الزعيم على علاقات متوازنة، رأسمالها الحقيقي الاستقلالية التي لم تُقلل أبداً من مكانته، حتى لدى الأعداء والخصوم الذين صادقهم معا؛ فقد حافظ على علاقات دافئة مع فيدل كاسترو، وحافظ على مواقفه المعروفة من القضية الفلسطينية.
كل هذا الثراء النضالي يغلق بوابة القرن العشرين، بحروبه الكبرى ونضالاته المريرة؛ فبالأحداث الكبرى والمؤثرة تُفتتح القرون وتنتهي، ولعل وفاة والد أفريقيا العظيم هي النهاية الفعلية للقرن العشرين.

[email protected]