أعيدوا لهم الطفولة!

مشهد غريب من الماضي، منذ زمن طويل لم أشهده. أطفال إلى جانب إحدى البنايات السكنية تعتلي ملامحهم كل أسباب الفرح والبهجة؛ يلعبون “الطماية/ كمستير”. وإلى جانبهم آخرون ينتظرون انتهاء صديقهم من الرسم بالطبشور على الأرض، استعدادا للعب “الحجلة”.اضافة اعلان
شعرت بفرح خفي يتسلل إلى أعماقي، والذاكرة تعود بي إلى أجمل سنين العمر. كم كانت تلك اللحظات مفعمة بالبراءة والجمال والعفوية، ونحن نعيش مع رفاقنا طفولتنا بكل عنفوان ورغبة بالحياة والسعادة. نرسم من دروب الحارة وساحتها الضيقة ميادين لعب لشقاواتنا الصغيرة، وحين يستبد بنا النشاط نلجأ إلى ألعاب شعبية ما نزال نحفظها في ذاكرتنا، بعد أن شكلت تفاصيلنا الماضية.
ما شدني أمس، وأنا أشاهد هؤلاء الأطفال أصوات الضحك التي ملأت المكان. أعادوني إلى سنين خلت، حينما كانت ألعابنا مختلفة فعلا؛ الطماية والحجلة والقلول وطاق طاق طاقية والخريطة، وغيرها من الألعاب التي كنا نخترعها ونحن في أعمارهم.
ما أجملها من أيام، تلك التي صرنا نفتقدها اليوم، بعد أن غزت بيوتنا ألعاب لا تشبهنا، ولا تنتمي لبيئتنا، بل هي ألعاب “انعزالية” يعيشها أطفالنا، وتسرق منهم عفويتهم وبساطتهم.
اليوم، أصبح أطفالنا أسيرين لقطع إلكترونية صغيرة، إطارها لا يتعدى حجم اليد، حتى صار منظر أطفال يلهون في الزقاق أو الساحات شيئا غريبا يلفتنا ويشدنا ويفرحنا!
هل ظلمنا أطفالنا؟ هل تركناهم يختزلون أجمل أيام حياتهم، ويهدرونها مع ألعاب “افتراضية” على أجهزتهم الذكية التي تزيدهم سطحية وانعزالا؟ هل كنا سببا بانسحابهم نحو العزلة، وتلاشي علاقاتهم وصداقاتهم الحقيقية، وابتعادهم عن مجتمعهم في حياة تغلب عليها الوحدة مع أجهزة صماء أدمنوا عليها؟!
أهال للأسف، وجدوا ضالتهم بأجهزة تكنولوجية صغيرة، قد يقضي عليها الطفل ساعات متواصلة. ذلك وفر عليهم صراخا وشقاوة ونكدا كانت لا تنتهي خلال اليوم، فحل الهدوء مكان الضجيج، ولم يعد ذلك الطفل يطلب من والديه رؤية أصحابه أو النزول للعب، بعد أن بات جهازه يغنيه عن أي صديق أو رفيق، وربما لم يعد يستطيع أصلا أن يبعده عن لعبة أو برنامج يتابعه وتواصل مع عالم افتراضي بدلا من واقع جميل هو حوله!
أيها الآباء.. أيتها الأمهات؛ ألم تجربوا أن تحدثوهم عن طفولتكم الجميلة؟ عن ألعابكم، كيف كان فيها الربح والخسارة؟ عن ذلك الشغف الذي ما يزال يستوطن أرواحكم، وذكريات ما تزال منقوشة في الذاكرة من تلك الأيام الدافئة.
لن ندعو لإيقاف الزمن أو الرجوع به، في وقت ندرك فيه صعوبة إبعاد الطفل عن العالم التكنولوجي الذي أصبح جزءا من حياتنا، فضلا عن الفائدة التي تتأتى من كثير من جوانبه التعليمية. لكن علينا محاولة إعادة ولو جزء صغير من حق أطفالنا باختزال عالم مليء بالذكريات، يعيد لهم التوازن، وضحكاتهم البريئة، الجميلة والعفوية، قبل أن يحل مكانها انعزال تكنولوجي مخيف! يسحبهم شيئا فشيئا، ويغير طبائعهم وسلوكياتهم وشخصيتهم، ويأخذهم لمساحة أضرارها أكثر من فوائدها.
لعلنا لم نعد بحاجة لذلك “الذكاء” الذي ندفع ثمنه باهظا، لكي تتفتح أعين أبنائنا على العالم مقابل إغلاق أعينهم عن الحياة بروحها الجميلة. نريد طبيعتنا بشكلها الحقيقي، نريد فقط أن نعود لإنسانيتنا.. أن يعود الأطفال أطفالا كما كانوا من قبل.