أفول الأيديولوجيا وصعود البرامجية

ما تزال العديد من النخب العلمانية والدينية تعتبر الثورات العربية التي قامت العام 2011 حالة طارئة على التاريخ. وفي دول كمصر وسواها، تعتبر النخب الحاكمة أننا تجاوزنا هذه المرحلة؛ هكذا ببساطة ومن دون معالجة حقيقية لأي من التحديات التي قادت إلى هذه الثورات بالدرجة الأولى. وما نزال نشهد السياسات القديمة نفسها، مغلفة بإجراءات تجميلية، علها تقنع المواطن الذي يمنعه الخوف من المجهول، من الاستمرار في إعلان شجبه للسياسات التي أدت إلى تهميشه سياسيا واقتصادياً، لكن معاناته من هذه السياسات لم تتوقف. اضافة اعلان
في الأردن، اختفت الاحتجاجات في الشارع، لكن حجم البطالة لم ينخفض، وحجم الدين العام يهدد مستقبل أبنائنا وبناتنا. وما تزال مواضيع أساسية، كالفساد والصحة ونوعية التعليم، لا تحظى بمعالجات منهجية. أما الشعور بالمشاركة في صنع القرار، فوصل مستويات متدنية، بعد أن فقد المواطن الثقة بالمؤسسات.
النخب الدينية التقليدية ما تزال هي الأخرى تعيش في الماضي، إذ تصر على رفع شعارات أيديولوجية تعتمد الخوف بدلاً من الأمل، وتتكلم عن الماضي أكثر من تطلعها للمستقبل. وما تشهده الحركة الإسلامية في الأردن من انقسام يجب أن يقرأ من هذه الزاوية؛ فهو صراع في جوهره بين من يريد تغليب الشق الدعوي على الشق السياسي، ومن يريد الاستمرار في رفع الشعارات الأيديولوجية ضد من يرغب في تطوير برامج تحاكي متطلبات الحياة اليومية.
للذين لا يرون خيراً في "الربيع العربي" أقول: إن من أهم نتائجه التي ترفض العديد من النخب العلمانية والدينية إدراكها، أن هذه الثورات أظهرت إفلاس عصر الأيديولوجيات الشعاراتية، وعدم قدرتها على معالجة مشاكل الناس. كما تكسرت الأيديولوجيا العلمانية التقليدية في الوطن العربي على صخرة 1967، حين لم تتمكن لا من تحرير فلسطين ولا من رفع مستوى التنمية بشكل مستدام؛ تتكسر اليوم الأيديولوجيا الدينية السياسية المبنية على شعار "الإسلام هو الحل"، الذي لم يترجم إلى برامج اقتصادية واجتماعية تحسن مستوى معيشة الناس. أما التوجهات الليبرالية، فهي الأخرى لم تنجح في ترجمة إيمانها بالحريات العامة والفردية إلى برامج ترفع من مستوى معيشة الناس ولا تهمش الطبقات الفقيرة.
قد يكون للدولة دور في تشجيع الانقسام الحالي بين الإسلاميين، لكنه دور ثانوي إذا ما قيس بالأزمة الحقيقية داخل الإخوان المسلمين اليوم، والمتعلقة بمراجعة النفس والتعلم من الأخطاء والنظر للمستقبل. الأحزاب الإسلامية التي فعلت ذلك، في تونس والمغرب مثلاً، فابتعدت عن الأيديولوجيا الهتافية وشاركت في مشروع بناء الدولة وقدمت تصوراً سياسياً اقتصادياً مجتمعياً تشاركياً، تعيش اليوم في حالة انتعاش، وتتمتع بشعبية واضحة. أما الأخرى التي ما تزال متمسكة بسياسات الأمس، في مصر والأردن، ولا تعترف بالأخطاء ولا تقوم بمراجعة النفس، فهي تعيش اليوم حالة تخبط واضحة.
ما الذي يجمع القوى التقليدية العلمانية والدينية في الوطن العربي اليوم؟ كلاهما لم يستوعبا الدرس الأكبر من الثورات العربية؛ بأن الأيديولوجيا وحدها لا يمكن أن تشكل بديلاً مقنعاً للبرامجية التي تحاكي آمال وتطلعات الجيل الجديد، وتضع الحلول للمستقبل، وتؤمّن الحياة الكريمة لعامة الناس. من يصر على أيديولوجيا لا تتماشى مع متطلبات الحياة المعاصرة، سيغرق فيها، وسيطرحه الجيل الجديد جانباً.
العديد من النخب الحالية لا تقرأ التاريخ ولا تستوعبه. الخوف والأمن الخشن لن يردعا الاحتجاجات إلى ما لا نهاية، ولن يتمكنا من طمس الحاجة لمؤسسات راسخة تستطيع معالجة الأسباب الحقيقية التي أدت لهذه الثورات. اسمعوا للجيل الجديد الذي بدأ التطرف يتزايد في أوساطه، لأنه سئم الشعارات العلمانية والدينية التي لم تطعمه خبزاً؛ جيل لا يدعم إلا من لديه مشروع حداثي مستقبلي، لأن الحياة للمرة الألف لا تقيم في منازل الأمس.