أكثر من بلفور..!

بدأ آرثر بلفور حكاية التصرف غير المُحِقّ بأملاك الفلسطينيين ومصائرهم في العام 1917. لكن الأمر لم يتوقف عنده. فبعد أن عمل المستعمرون البريطانيون على تمكين الهجرة اليهودية والاستيلاء الصهيوني على معظم فلسطين، توالى "البلفورات" الذين تصرفوا على نفس الأساس من الازدراء لأحلام الفلسطينيين وحقوقهم وكأنهم غير موجودين وأقل من بشر.اضافة اعلان
لم يختلف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، "قرار تقسيم فلسطين" رقم 181 في العام 1947، من حيث المبدأ عن وعد بلفور. فقد أقرت هذه الهيئة منح اليهود الذين لم تتجاوز نسبتهم 30.4 % من السكان، وجلهم من الغرباء القادمين حديثاً، 57.7 % من فلسطين التاريخية، وتركت لأصحاب الأرض الفلسطينيين 42.3 % فقط من وطنهم. وكانت هذه القسمة الظالمة تجسيدا صفيقا آخر لفكرة "هبة من لا يملك لمن لا يستحق".
ولم تتوقف الاستهانة بالفلسطينيين والتصرف بوطنهم عند هذا الحد. فبعد الاحتلال الصهيوني لبقية فلسطين التاريخية في العام 1967، أصدرت الأمم المتحدة نفسها القرار 242، الذي عاد فمنح قطعة كبيرة أخرى من فلسطين للمستعمرين، واعتبر الضفة الغربية وغزة فقط أراضي محتلة. وتبلغ مساحة الضفة والقطاع مجتمعتين حوالي 22.33 % فقط من مساحة فلسطين التاريخية المحتلة. ومنذ صدور القرار واصل الكيان الصهيوني استيطانه في الأراضي الفلسطينية التي اعتُبرت محتلة، وتدميره للمجتمعات المحلية وتقطيع أوصالها، بينما جرى اختزال المساحات التي يمكن التفاوض عليها حتى لم يتبق ما يمكن أن تقام عليه دويلة قابلة للحياة.
كل ذلك جرى تحت إشراف الولايات المتحدة بالتحديد، التي عطلت كل إمكانية للاستماع إلى صوت الفلسطينيين والانتباه إلى شكواهم، بحيث أبقتهم دائماً مثل الأيتام على مأدبة اللئام، بينما تتصرف بأملاكهم ومصائرهم. وقد حجبت الولايات المتحدة أي فرصة لتدخل أي طرف آخر للتوسط في "حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني" كما تسميه، على أساس عادل، لتكون هي الحَكم الوحيد في الصراع الذي تخوضه هي، بكل قوتها، ضد الشعب الفلسطيني ووجوده وتطلعاته.
الآن، قرّر الرئيس الأخير لذلك البلد نزع القناع الذي لم يكن يُخفي في أي يوم قبح السياسات الأميركية في المسألة الفلسطينية، وتقمص بلفور مرة أخرى ليقرر منح القدس الفلسطينية المحتلة للكيان الصهيوني، بعد أن قرر تمليكه الجولان العربي المحتل، وكأنهما ملك أبيه يصنع فيهما ما يشاء. كما توقع مراقبون أن تصادق إدارته على ضم الضفة الغربية –أو معظمها- في حين نفذ رئيس وزراء الكيان وعده لناخبيه.
بهذا التسلسل، تلاشت فلسطين التاريخية بالتدريج لتصبح مجرد نقاط صغيرة متناثرة على الخريطة، بعد أن وهبها "بلفورات" متعاقبون للغزاة المستعمرين. وكان في هذا الاغتصاب للحق الفلسطيني أبشع تحقق لمبدأ "الحق هو القوة"، الذي يتنكر لكل المبادئ الإنسانية ومفاهيم العدالة والخير.
كان "المؤهل" الوحيد الذي مكن بلفور من التصرف بأرض الفلسطينيين وأقدارهم هو انتماؤه إلى بلد يمتلك وسائل القوة لتنفيذ القرارات والوعود. كما أن الذين جاؤوا بعده من استكمال مشروعه لنفس السبب. ولن يتمكن أي شيء من تغيير هذه الاتجاهات سوى حشد ما يمكن من القوة والوسائل للخروج من وضع الضحية الأبدية. وكل ما عدا ذلك –كما أثبتت الخبرة- عبث لا طائل تحته.
طوال أكثر من قرن منذ وعد بلفور الأول، لم يتمكن الفلسطينيون من ثني "البلفورات" الآخرين عن التصرف بمصيرهم باستخدام القوة الغاشمة. ولم تفلح نضالاتهم، والتماساتهم للهيئات الدولية والضمير العالمي -وحتى القبول بسلام غير عادل- في أن تجلب لهم أي حقوق. وإذا كان ثمة ما تشير به الذكرى 102 لوعد بلفور، فهو أنه ليس أمام الفلسطينيين من سبيل سوى المقاومة العنيدة بكل أشكالها –مهما كان هذا الطريق شاقاً وطويلاً- باعتبارها البديل الوحيد الذي يعرض الأمل في أن يكون لهم قول في تقرير مصيرهم واستعادة إنسانيتهم المهدورة.