"أكيد فيه ذهب"..!

حدثتني أمي في طفولتي عن عجوز تسعينية طلعت عليها ليلة القدر. كانت داهية عركتها السنون ولم ترتعد، وإنما دعت: "يا رب: بيت مال، وبيت رجال، وحجة للنبي المختار". بعد ذلك أصبحت هذه العائلة كثيرة الرجال والمال والهيبة فعلاً. تصور ذهني الطفولي آنذاك أن ليلة القدر شيء يشبه اليانصيب أو مصباح علاء الدين (غيري بالتأكيد). وإذا انفتحت لك طاقة القدر، فهذا كل شيء.اضافة اعلان
ثم سمعت عن أناس وجدوا ذهباً وهم يبنون بيتهم؛ وعرفت عن صيادي كنوز يستحضرون الجان ويفتحون المندل، ويفشلون فيواصلون. ثم حدثني زميل عراقي عن شيء اسمه "الزئبق الأحمر" يباع بأثمان فلكية لمطاردي الدفائن: تصبه في المكان، فيسيل إلى موضع الكنز مثل سهم، أو أنه يسخر لك الجن، كما أنه يستخدم في المتفجرات، وربما القنابل الاندماجية، ولذلك يطارده "الإرهابيون".
امتلأت حياتنا التي تراوح بين الوهم والحقيقة دائماً بشيء له علاقة بالكنوز والمغائر والتمائم والحجُب والمصابيح السحرية وطاقات القدر. من لم يقرأ ذلك في "ألف ليلة وليلة" فكمن في لاوعيه، سمعه في قصص الليل فكمن في وعيه ايضا. ربما لذلك وصفنا المستشرقون بهذه "السحرية" و"الحسية"، باعتبارها نقائض الواقعية والعلمية والدنيوية (الغرب). لكن هذه النزوع الغامضة تنشط في أوقات الفراغ والأزمات وقلة العمل، فتضيف على الطين البلل. عندما لا تجد وسيلة للرزق تشغل ذهنك وتقيم أودك في العالم المادي، تتعلق بحبال المعجزات.
في السياق، قرأت تعليقاً في موقع على خبر "كنز هرقلة" الذي أضاف إلى مناخ التيه والتكهن الذي يسود البلد مؤخراً. كتب المواطن: "أكيد فيه ذهب، لا دخان بدون نار". ويبدو من الجزم الأول المتبوع بعبارة تنطوي على الشك، أن مواطننا لم ير بعينه، لكنه جزم -مع ذلك- بسبب "الدخان"، منطلقاً مما يسميه الأجانب "التفكير المتمني". وهو لا يعبر عن طمع صريح بحصة من "الدفينة"، وإنما يريد التعبير عن شكه المتأصل في الرواية الرسمية، أياً كانت الرواية ومهما كان موضوعها: إذا قالوا أن أي شيء أبيض، فلا بد أن يكون أسود بلا جدال. هذه القطيعة في الثقة بين المواطن والسلطة أصبحت ثابتاً محلياً بسبب غياب الشفافية الكبير، وانقطاع الحوار، وسيادة الشك، حتى أصبح البلد قاعدة تنافس السلطة، بينما يجب أن يكون طرفاً واحداً كله.
لست منحازاً إلى رواية طرف في مسألة الذهب، ببساطة لأنني لا أعرف ولا يمكن أن أعرف، مثلي مثل غيري، عن حقيقة الموقف. فمن هو المتيقن من أي شيء الآن في كل هذا الغياب لليقين؟ لكن التأكيد على وجود الذهب وقصة الدخان أرسلتني لأبحث عن مقطع في رواية إميل حبيبي التي أحبها كثيراً "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". وعثرت على المقطع. يقول سعيد المتشائل: "كان والدي، حين استشهد، يستشفّ الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمَن له وأودى بحياته. ووالده، ‏من قبله، شُجَّ رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها. ‏فهذه هي شيمة عائلتنا النَّجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهواً من صرَّة عابر سبيل لعلنا ‏نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلاً... ولكن، يجب ألاّ تفهم من هذا الكلام أن جدودنا لم ينتهوا إلاّ برؤوس مهشمة. بل لقينا أموالاً ضائعة كثيرة، ‏جيلاً بعد جيل، فلم تبدل شيئاً من حياتنا  الرتيبة". (انتهى الاقتباس).
وجدت في المقطع تلخيصاً للحكاية. وجدت له صلة حتى بـ"داعش" وصفارات الإنذار، والشجارات وجرائم القتل، والاكتئاب الاجتماعي. كلها تجليات لفقدان الناس الحس بالجدوى، لقتامة المستقبل، وارتباك الروايات. لا أحد يعرف ما يبدو عليه الغد، ولا يريد النظر إليه لأنه لا يعد بإشراق، فيبحث تحت قدميه. والبحث هناك وصفة للموت والانتحار ارتطاماً بحجر طاحون أو وقوعاً في كمين والمرء غافل. كل يبحث عن ذهبه الخاص. أما الذي تنفتح له طاقة القدر، فلا يدعو مثل العجوز لنفسه ولغيره، وإنما يستأثر الكل لنفسه، ثم يشتري لنفسه السلطة ليتعالى ويضطهد، ويبدد اللقية على السفاسف فلا تتبدل "حياتنا الرتيبة".
ولكن، "أكيد فيه ذهب" هنا، دنيوي وحقيقي جداً. نحن، إذا نُفض عن عقولنا الغبار، وفُتحت لنا طاقة أمل.