أمان اجتماعي

منطق الاشياء اننا لا نستطيع العودة الى الوراء، والغاء كل التطورات السلبية والايجابية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن على قادة التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المحافظة دائما على معادلة الامن الاجتماعي الحقيقي، وليس كما تفهمه بعض الحكومات على أنه زيادات رمزية على الرواتب، وزيادة في موازنة صندوق المعونة.

اضافة اعلان

سنغادر الحاضر الى الماضي القريب الذي لا يتجاوز عقدين من الزمن، وندخل الى القرى والمحافظات الاردنية التي تمثل الطبقة المتوسطة او الفقيرة، لنجد شريحة واسعة يمثلها المسار التالي: يكبر الشاب حتى يبلغ (17) او (18) عاما فيلتحق بالقوات المسلحة او الامن العام، وهذا "التجنيد" كان يعني شبكة من الامان العام، اولها راتب شهري يدخل على بيت اما كان يعتمد على الزراعة الموسمية او على راتب رب الاسرة، والثاني تأمين صحي مجاني في الخدمات الطبية الملكية للشاب وكل عائلته، وهو جانب مهم لتأمين الدواء والعلاج لأسر دخلها محدود ولا يمكنها تحمل اي كلفة لدواء او مراجعة طبيب خاص، والحصول على بطاقة المعالجة كان يعني القدرة على اجراء العمليات، اي نقلة نوعية في حياة الاسرة بخاصة في ظل المستوى المتميز للخدمات الطبية.

ومنظومة الامان الاجتماعي كانت تعني بطاقة المؤسسة الاستهلاكية العسكرية حيث الزيادة الشهرية الكبرى لشراء السكر والأرز والمنظفات وعلب الطن والسردين والمرتديلا، وبسبب الفروقات في الاسعار كانت البطاقة محل ترحيب في الاسرة، فضلا عن مكانتها الاجتماعية.

وبالنسبة للشاب فإن الدخول الى مجال العمل كان يعني ضمان التقاعد بعد (16) سنة، وكان التفكير يذهب الى الوظيفة الاضافية بعد التقاعد الذي يتم، في كثير من الأحيان، في سن دون الاربعين.

وهناك ايضا المكرمة الملكية لتأمين مقاعد ورسوم وراتب شهري لابناء العاملين والمتقاعدين، أي دراسة جامعية لمن يحصل على معدل معقول من الابناء، وهذا جزء من امان المستقبل وتوفير فرص التعليم للابناء والبنات.

وبعد استلام الراتب الاول، ومرور عدة شهور يقوم خلالها بشراء الميداليات المرسوم عليها قلب حب او حروف وبعض الاشرطة ومسجل، يبادر الشاب الى اخذ سلفة لا تتجاوز (70) دينارا او في حدها الاقصى (150) دينارا تكون اما لسداد ديون على ابيه، او (لتحويشها) للبدء ببناء بيت صغير. والبيوت عادة من غرفتين وصالون ومنافع دون اكسسوارات, واحيانا يسكنها دون (قصارة) او طراشة، وهكذا يبدأ خطواته نحو الامان: من تأمين صحي وتقاعد، وبيت ثم مشروع الخطوبة والزواج، ولا تمضي (5-7) سنوات حتى تكون هذه المشاريع الاستراتيجية قد تم تأمينها.

لا نتحدث هنا عن بذخ. بل عن بيت وزوجة وبطاقة معالجة واخرى للمؤسسة الاستهلاكية وتأمين يتعلم الاولاد والبنات بموجبه في الجامعات والكليات وتقاعد. والبيت سواء كان من الرخام الايطالي او مكتظا بالثريات او بفرشات صوف وخزانة و(زير) فإنه بيت.

أما اذا انتقلنا إلى صورة الحاضر فإن الشباب وحتى الكبار يجهدون سنوات من الديون للحصول على شقة بقرض بنكي يمتد عشرين عاما، والراتب مهما كان تستنزفه اقساط الجامعات الخاصة او الحكومية المتزايدة، والعلاج في كل مستشفيات الدولة بدأ يكلف اصحابه بعض التكاليف البسيطة المتزايدة، ومن لا يملك تأمينا حكوميا يشعر بالاسعار المتزايدة للعلاج في القطاع الخاص.

وتعددت اشكال الحصار؛ فتم توحيد الجميع تحت مظلة "الضمان الاجتماعي" حيث الدخل واحد، وبسبب الخصخصة وانسحاب الدولة من بعض المجالات قلت فرص العمل، وحتى تلك البسيطة، وذات الدخل المحدود اصبحت شحيحة وتحتاج الى واسطة.

ما ينقص اي امان اجتماعي ليس قلة الرواتب، بل ضعف قيمتها الشرائية. فالكبار يتحدثون عن رواتب بقيمة (20) او (30) دينارا، لكنها كانت تكفي لأن اجرة البيت (4) دنانير وكيلو اللحمة (دينار) والملابس رخيصة، وكل متطلبات الاسرة يمكن تأمينها بالراتب القليل. لكن الان قد يدخل على الاسرة دخلٌ بـ (500) دينار، لكن يدفع ثلثه اجرة بيت، فيما اصبحت السلع كافة مرتفعة السعر، بحيث لا يكفي ما تبقى من راتب حتى نصف الشهر.

اذا كان لدى الحكومات رغبة في توفير امان اجتماعي حقيقي فإن المعادلة سهلة: ان يكون الدخل وما تقدمه الدولة لذوي الدخل المحدود يؤمن لهم اساسيات الحياة وتوفير فرصة الحياة الكريمة دون ترف او بذخ.

[email protected]