كنتُ أشكو كثيراً، كالمرأة التي وضعت حَمْلاً ثقيلاً، هكذا كانت تصفني أمِّي، حين اقترحتْ جادةً أنْ أذهبَ لرؤية مصائب الناس، لتهونَ عليَّ مصيبتي. ستقولُ لي ذلك عندما تشدُّني كالحقيبة الفارغة إلى المدرسة الإعدادية، وتشاهد فتى يمشي بساقين رخيَّتين، ويداه تتصالبان على صدره، وترجوني أنْ أنظر، ثمَّ أؤمن أنَّ هناكَ أحزاناً أنبل من عدم استقامة أسناني كمشطها الحنَّائيِّ. سيحتاجُ الأمرُ عمراً من السُّدى، حتى أعودَ إلى أمِّي وبيدي الرهان: أنَّ للناس أحزانها؛ أمَّا أنا فـ “حزين”.
ولمَّا ولدتُ صارَ للحزن عائلة، لكنَّني سأعيشُ وحيداً تماماً “كالألف بعد واو الجماعة”، فقلبي فارغٌ كما يزدحمُ الفراغُ بالناس. لا شيءَ في غرفة الجلوس، سوى أنَّني أجلسُ وحدي، بطلاً خارج الشاشة، فيما أحداث الفيلم تتابع مجرياتها بتشويقٍ اعتياديٍّ قد لا يُفضي إلى “نهاية رجل شجاع” عما قليل، فأواصلُ الذكرى: في حصة الموسيقى كنتُ أدفن رأسي، لأتفادى طلبَ المعلمة أنْ أصعدَ السلم. فقد كنتُ دوماً حافيَ القدمين، وفي حصة الدِّين استثنتني المعلمة من قراءة “الفاتحة”، ففتحتُ منذُ الحصة الرابعة كتابَ “الاستثناء”.
كان يمكنُ أنْ أكونَ عادياً، مثلكمْ تماماً، أو أكثر قليلاً، فأتزوَّجَ كما تتزوَّجونَ ليلة الجمعة الأولى في صيف خالٍ من أنباء الموت، وأنجبُ أطفالاً أذكياء أو أغبياء، أو مصابين بأمراض وراثية معقدة، لكنَّني تركتُ الأمْرَ للمصادفة الطبيعية، فاستثْنَتْني من دون إبداء الأسباب. ربَّما أشبهكم حدَّ التنافر، فمثلكم تماماً أنا، وأكادُ أصدِّقُ أنَّني لا أختلفُ عنكم، سوى بعلامات فارقة، لولا نظراتكم لي :”لستَ منَّا”. ولستُ منِّي، لا أختلفُ عنِّي وعنكم سوى باسمي الذي يُفيدُ بأنَّني “نادر”!
عشتُ ثلاثين عاماً في “أسطورة” اقترحَها خيالي الواسع، أصابَتْني بالغرور الذي يُصيبُ أبطالَ الواقع قبل دخولهم الروايات. واعتقدتُ كما يَعتقدُ الأبطالُ قبل أوان الخاتمة بفصل كئيبٍ، أنَّ الاختلافَ أيضاً لا يُشبهني، وأنَّني إذ خسرتُ ما يربحه الناس، فكأنَّني لم أخسر شيئاَ. لا شكَّ أنَّني سئمتُ كما يسأمُ البشرُ العاديون من أقدارهم المتداولة، ويُراودني الآن تحديداً، في مساحة مهملةٍ من الخيال، أنْ أعيشَ الثلاثين عاماً الأخرى أقلَّ أو “زيِّ الناس”!
أمَّا أنا فـ “حزين”؛ فقد عرفتُ مبكِّراً أنَّني لن أكونَ عادياً. وإنْ كنتُ سأرثُ، مبكِّراً، عن أبي أشياءه العادية: إطالة السالف في الرابعة عشرة لاستمالة المُمرِّضات، اعتقادٌ ساذجٌ في السادسة عشرة أنَّ الحياة خارج روايات “حنا مينا” لا تستحقُ العَيْش، أفكارٌ مخدوشة في الثامنة عشرة أنَّ الحزب يعرفُ مصلحة “الوطن” أكثر من “الدولة”، أوهامٌ لحوحة قبل العشرين بأنَّ العمرَ أقصر من أغنية “قارئة الفنجان”. وسأكبرُ “حتى يصبح حزني أشجارا” ولن أكونَ عادياً، فسأحتفظ بالثلثين بعيداً عن أخوالي، وبنصيبي من جين الحبِّ بعيداً عن أعمامي، وسأتركُ لأشقائي حصَّتي كاملة في أشياء أبي، إلا واحدة: الموتُ في الدقيقة الرابعة والخمسين من “قارئة الفنجان”، عندما أعرفُ متأخِّراً أنَّني كنتُ استثناء؛ هذا ليس غروراً، هو رغبة المريض بأنْ يكونَ سوياً.