أميركا والشرق الأوسط: التانغو المازوشي

مواطنون عرب يشاهدون خطاباً لأوباما في أحد المقاهي - (أرشيفية)
مواطنون عرب يشاهدون خطاباً لأوباما في أحد المقاهي - (أرشيفية)

 تقرير خاص
 (الإيكونوميست) 15/12/2012
 ترجمة: عبد الرحمن الحسينياضافة اعلان
عندما أصبح باراك أوباما رئيساً لأميركا قبل أربعة أعوام، كان له هدفان رئيسيان في الشرق الأوسط: جعل أميركا أكثر شعبية في المنطقة؛ ثم الخروج منها، بدءاً بالعراق وانتهاء بأفغانستان. وكان الإيمان قوياً في صلاحياته لدرجة إن البعض ظن بأن السيد أوباما قد يجد حتى الحل للصراع بين إسرائيل وفلسطين، والذي كان قد أعيا رؤساء سابقين، وبأنه سيقنع إيران بالتخلي عن السلاح النووي وبمنع اندلاع حرب أخرى في المنطقة. وستجعل ثورة الغاز المستخرج من الصخر الزيتي من أميركا أقل اعتمادية على نفط الشرق الأوسط، وتمكنها بالتالي من تقليل التمسك بحلفائها الأغنياء بالنفط في العربية السعودية وغيرها من دول الخليج. وبإنجاز كل ذلك، ستستطيع أميركا التوجه نحو مخرج من هذا المكان، والاستدارة نحو منطقة الباسفيكي.
 لكن، ولسوء حظ السيد أوباما، لم يحدث ذلك. وخلال أسبوعين من إعادة انتخابه، كان الرئيس يتفاخر بحرارة أول زيارة له إلى جنوب شرق آسيا منذ طفولته في إندونيسيا، ووجدت إدارته نفسها وهي تكافح لمنع إسرائيل من شن حرب برية على غزة لسحق حركة حماس، الحركة الإسلامية الفلسطينية المحاربة. وغادرت وزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، الجولة الآسيوية وطارت إلى إسرائيل ثم إلى مصر، وأصبح التمحور الأنيق عودة غير كاسبة ومحرجة لموقف أميركا القديم كوسيط متردد وغير محبوب.
بيبي وباري يمر معظم نفوذ أميركا المباشر في الشرق الأوسط من خلال إسرائيل. وكان السيد أوباما قد احترق من خلال تجربته في رئاسته الأولى عند محاولته التعامل مع مشكلة إسرائيل وفلسطين. وفي العام ونصف العام الأولين من رئاسته كسب الإطراء -وجائزة نوبل للسلام السابقة لأوانها- لإبلاغه العرب والمسلمين بأن أميركا صديقتهم. وهو لا بد وأن يكون قد نسي أو اختار أن لا يهمس بكلمات ترضية لإسرائيل، وفشل في زيارة القدس وعرض خطة سلام خاصة به. وكانت النتيجة أنه أصبح غير محبوب من جانب الإسرائيليين أكثر من أي رئيس أميركي آخر في الذاكرة الحية. وفي الأثناء، وهنت الحرارة التي شعر بها الفلسطينيون والعرب الآخرون حياله في بداية الأمر.
طوال العامين الماضيين، كانت عملية السلام ميتة. وبالرغم من أن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، تبنى رسمياً فكرة حل الدولتين لأول مرة منذ منتصف العام 2009، فإن السيد أوباما فشل في حثه على العمل من أجل تحقيقها فعلاً. والآن، يبدو أن السيد نتنياهو قد فقد الاهتمام، إن كان لديه أي اهتمام أصلاً. وبالإضافة إلى ذلك، يشعر الزعيمان بالاشمئزار من بعضهما بعضا. ويستطيع النظام الانتخابي في إسرائيل القائم على التمثيل النسبي أن يلد ائتلافات غريبة. ولكن، بعد الاقتراع الذي يجريه الإسرائيليون في 22 كانون الثاني (يناير)، يرجح أن يترأس السيد نتنياهو نفسه ائتلافاً صقرياً جديداً يفضل سياسة "إسرائيل الحصن" بدلاً من تقديم تنازلات في الأراضي وغيرها للفلسطينيين.
 فهل سيقوم السيد أوباما بالضغط على إسرائيل ودفعها في اتجاه المفاوضات، من خلال، مثلاً، تغريمها بسبب سياستها في بناء المستوطنات التي تتعارض مع القانون الدولي؟ يقول البعض إن باستطاعته أن يكون شديداً، خاصة وأنه يرى أنه لم يعد يحتاج للخوف من اللوبي الإسرائيلي القوي هناك في الوطن. لكن قلبه لا يطاوعه، وذلك يترك الجانب الفلسطيني في موقع تغير فيه ميزان القوى. فحماس والإسلاميون يرتقون، فيما المعتدلون الأكثر علمانية في فتح بقيادة زعيم التوافق، محمود عباس، يتراجعون. فهل سيتقرب السيد أوباما من حماس على أمل إقناعها بتعديل سياساتها كما تلمح الحركة بين وأخرى، وبحيث تصبح محاوراً مقبولاً؟ يقول دبلوماسي أميركي رفيع كان قد عمل مع السيد أوباما في فترة رئاسته الأولى: "إنه شخص غامض ولا يعرف أحد ما الذي يفكر فيه. إنه رجل تظل دائرته الداخلية صغيرة جداً".
ويعد الافتقار إلى توافق الحزبين في السياسة الخارجية الأميركية عائقاً آخر. فثمة القليل من الجمهوريين سيدعمون أي سياسة تسعى لإجبار إسرائيل على إعطاء الكثير من الأرض، سواء كان ذلك دبلوماسياً أو حرفياً. وثمة بين الديمقراطيين بعض التعاطف مع نفاد صبر السيد أوباما من السيد نتنياهو. كما تكسب حركة "جيه ستريت" جماعة الضغط اليهودية الأميركية الحمائمية المختلفة مع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية النافذة والصقرية بلا انقطاع، القليل من الجاذبية، وإنما ليس بالقدر الكافي لمنح رئيس ديمقراطي الكثير من المساحة للمناورة. ولا يبدي مستشارو الرئيس أوباما حرصاً على إقحامه في أتون الصراع بين إسرائيل وفلسطين مرة ثانية، لكن التطورات على الأرض قد تجبره على التحول إلى صانع سلام. ويقول جمهوري رفيع من الذين يستمع إليهم الرئيس: "كلما طال أمد حل الصراع، كان ذلك أسوأ بالنسبة لإسرائيل".
وقد أصبح التعامل مع إسرائيل أكثر تعقيداً منذ أطاح الربيع العربي بحكومات مجاورة. وما تزال غريزة الرئيس أوباما هي مد يد صداقة استكشافية للإسلاميين الأكثر اعتدالاً في المنطقة، وخاصة حركة الإخوان المسلمين التي تحكم مصر، والتي تشارك نظيراتها في أردية مختلفة في السلطة في كل من تونس والمغرب واليمن وغزة. وعندما ساعد محمد مرسي، الرئيس المصري، في ترتيب لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في غزة، أطرى عليه الرئيس أوباما. ولكن، عندما أصدر بعد أسبوع من ذلك بالكاد مرسوماً أعطاه صلاحيات شبه دكتاتورية، تراجع السيد أوباما عن إعجابه. ويصف الجمهوريون الرئيس أوباما بأنه ساذج في تبنيه للإسلاميين المتجمعين؛ لأنهم ليسوا أصدقاء لأميركا ولأنهم أعداء أبديون لإسرائيل. ومن المؤكد أن ثمة كلفة ستترتب على تفاؤل السيد أوباما: فالعلاقات مع العربية السعودية التي غضبت عندما امتدح الرئيس الأميركي سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك في وقت سابق من العام الماضي تظل متوترة.
النقاط الصحيحة والنقاط الخطأ في الربيع
إلى الشمال، في سورية، تبقى حسابات أميركا أكثر حساسية أيضاً. وفي هذه المسألة، يتفق كل من مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، اللذين كانا مختلفين غالباً في الأعوام الماضية، على أن الانخراط الأميركي العسكري المباشر في سورية ينطوي على مخاطرة كبيرة جداً. ويترك ذلك أميركا أمام خيارين: إما إعطاء الأسلحة مباشرة للثوار الذين يحاولون إسقاط الأسد، أو إقامة منطقة حظر طيران، على الأقل فوق الجزء الشمالي الغربي من سورية حيث سيطر الثوار بدرجة أو بأخرى على مساحات شاسعة من الأراضي.
وبالرغم من أن الرئيس أوباما حذا حذو القادة الأوروبيين بالإعلان عن اعتراف أميركا بالمعارضة السورية كممثل شرعي للشعب، فإنه يقف ضد كلا الخيارين. وفي الأثناء، تتزايد المخاوف من احتمال صعود الإسلاميين ليكونوا الطرف الأقوى بين فصائل الثوار. إقامة منطقة حظر للطيران من حلف الناتو، مع وجود أميركا في المقدمة، تتطلب قصف الدفاعات الجوية السورية، حيث يقع العديد منها في أماكن مكتظة بالسكان. وقد فعل السيد أوباما ثاني أفضل الأشياء تلبية لمطالبات تركيا بنشر صواريخ باتريوت باك بالقرب من حدودها مع سورية. ومن شأن ذلك ردع نفاثات الأسد المقاتلة من الطيران قريباً من المنطقة المحررة، خالقة منطقة حظر طيران صغيرة. ومع ذلك، وكلما طال أمد الحرب الأهلية في سورية، زاد احتمال أن يرتقي المتطرفون الإسلاميون إلى القمة، وكان من الأصعب إعادة بناء المجتمع السوري بعد سقوط الأسد الذي يبدو أمراً مرجحاً بازدياد.
وفي الأثناء، يبدو السيد أوباما وأنه يواجه أصلاً الشجب القوي لتهاونه الواضح حول سياسته السورية من جانب أشخاص مثل السناتور جون ماكين الذي يدافع بقوة عن فكرة التدخل. وثمة بعض المحافظين الجدد الذين قادوا أميركا إلى الحرب الفاشلة في العراق من بين الأكثر حرصاً على توريط أميركا في سورية أيضاً.
وتقول نماذج أكثر حذراً من المدرسة القديمة للواقعية السياسية، إنه يجب على السيد أوباما التحدث إلى روسيا والبحث عن طريقة، حتى في هذه المرحلة المتأخرة، لإنهاء الصراع في سورية من خلال التفاوض. ومرة أخرى، تظل سياسته المفضلة هي المراقبة والانتظار.
في الأثناء، في طهران ومع ذلك، لا يستطيع السيد أوباما فعل أي شيء بخصوص إيران. ويقول خبير في شؤون المنطقة: "يستطيع أوباما أن يكون الرئيس السادس على التوالي الذي يفشل في صنع السلام بين إسرائيل والعرب... لكنه لا يستطيع أن يكون أول رئيس يسمح لإيران بأن تحوز القنبلة النووية". وثمة وجهة نظر قوية تنجم في الأثناء، مؤداها أن السيد أوباما سيجد نفسه مضطراً إلى التحدث مع الإيرانيين مباشرة، خارج إطار العمل الخاص بالمفاوضات المستمرة منذ وقت طويل بقيادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا. لكنه يواجه مأزقاً؛ فمنذ الصيف يوافق الرئيس أوباما على أنه حتى توافر قدرة إيرانية على صنع قنبلة من دون الامتلاك الفعلي لواحدة، لن يكون مقبولاً. ويقول دبلوماسي رفيع المستوى بهذا الصدد: "لقد تم رفع موضوع الاحتواء عن طاولة البحث في الوقت الراهن".
ويعتقد أولئك الذين يتتبعون المفاوضات الشاقة مع إيران بإمكانية التوصل إلى صفقة. وفي الحد الأدنى، سيكون على الإيرانيين أن يوقفوا تخصيب اليورانيوم بنسبة أكبر من 5 % وإرسال مخزونهم من المادة المخصبة أصلاً بنسبة تصل إلى 20 % (والتي يكون من السهل الحصول من خلالها على مستوى صنع قنبلة) إلى بلد ثالث (باستثناء كميات صغيرة تستخدم للنظائر الطبية)؛ والحد من نشاط دوران أجهزة الطرد المركزي واختزالها إلى موقع واحد وحسب؛ والتوقيع على بروتوكول إضافي ينص على تفتيش مفاجئ بين الفينة والأخرى تجريه الوكالة الدولية للطاقة النووية، ذراع المراقبة النووية التابع للأمم المتحدة.
ويعتقد جورج بيركوفيتش، من مؤسسة كارنيجي إندومنت للسلام الدولي في واشنطن، بأن السيد أوباما سيطرح توليفته للتوصل إلى تسوية. ويقول عن ذلك: "إنه مستعد لتلقي ضربة في مقابل الحصول على ترتيب نووي شامل، في حال وافق الإيرانيون عليه". لكنه يضيف: "إنك لا تستطيع، من الناحية الواقعية، أن تطلب من إيران القبول بصفقة تمنعها من الحصول على قدرة بناء قنبلة، ناهيك عن امتلاك القنبلة في حد ذاتها". ويقول أحد المحافظين الجدد، والذي كان نائباً لمستشار الأمن القومي في رئاسة جورج دبليو بوش، إن السيد أوباما "عالق بين تعهداته حول إيران وبين رغبته في تفادي الحرب". ويضيف: "وعموماً، فإن الجمهوريين سيعارضون تقريباً أي صفقة يوافق عليها الرئيس".
فهل تكون إيران، تحت سوط العقوبات الاقتصادية، أكثر انسجاماً مع الخط الذي يرمي إلى التوصل إلى صفقة؟ قد تصبح نواياها أكثر وضوحاً بعد إجراء انتخاباتها الرئاسية في حزيران (يونيو) المقبل، حيث لا يكون لدى محمود أحمدي نجاد، الذي لا يعتقد بأن لديه الكثير مما يقوله في المسائل النووية بالرغم من لغته المجمدة للدم في العروق بين الفينة الأخرى، أي خيار سوى الرضوخ. وحتى ذلك الحين على الأقل، ربما يحافظ السيد أوباما على باروده الدبلوماسي والعسكري جافاً.
من جهتهم، يصر مستشاروه على أن السيد أوباما مستعد لاتخاذ عمل عسكري إذا فشلت إيران في التعاون. لكن آخرين، بينما يقرون بأن الرئيس ملزم بالتحدث عن الحفاظ على "كل الخيارات مطروحة على الطاولة" يقولون إنه من غير المرجح أن يذهب إلى الحرب مع إيران. وتفسر ذلك ذكريات غزو العراق الذي استخدم قرباناً كوليد بشع لزواج سابق. ويلخص برنت سكاوكروفت، مستشار الأمن القومي لرئيس جورج بوش الأب الموقف الأميركي الراهن هكذا:" لدينا نفوذ يقترب من الصفر هناك".
في رئاسته الأولى، حاول السيد أوباما النأي بنفسه بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط، ثم انخرط بنفسه. لكن أياً من الطريقتين لم تؤت ثمارها. وهذه المرة، ما يزال تأمل خياراته مجدداً. ويقول روبرت دانين، المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية سابقاً: "لا يوجد شيء يدعى إهمال حميد عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط". وإذا ظلت مشكلة إسرائيل – فلسطين من دون حل، وإذا هبطت سورية إلى جحيم احتراب طائفي مطول، وإذا حصلت إيران على القنبلة أو استخدمتها، فإن النظرة لكل من منطقة الشرق الأوسط والولايات المتحدة (لأن الاثنتين تظلان مرتبطتين ببعضهما) ستكون قاتمة. ومن المؤكد أن السيد أوباما سيتلقى فيضاً من اللوم. ولا يقوى على الالتفات إلى الجهة الأخرى.



*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: America and the Middle East: The masochism tango

[email protected]