أفكار ومواقف

أميركا والعزلة المالية

كريستوفر ر. هِل*

الصبر قد يكون فضيلة، ولكنه ليس كذلك بالضرورة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية الأميركية. ولنتأمل هنا مفهوم “الحرب الطويلة” الجريء الذي برز قبل بضعة أعوام لوصف الصراع المستمر ضد الإرهاب، والتقدم المضني الذي قد يتحقق على أرض الواقع، والعبء المالي الهائل الذي يفرضه هذا المفهوم لسنوات مقبلة، وأيضاً الإقرار الذي استند إلى “السياسة الواقعية” بالانتكاسات المتوقعة على طول الطريق (“المستنقع” على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد آنذاك).
في المقام الأول، كان ذلك المصطلح بمثابة محاولة للتواصل مع الأميركيين، الذين اعتادوا على شن الحروب بسرعة وحسم (والذين أصروا على ذلك منذ حرب فيتنام)، وإقناعهم بالتضحية الطويلة الأمد والالتزام المطلوب للفوز بحرب من أجل البقاء. ولقد فهم أنصار هذا المفهوم أيضاً أن الحرب لن تقتصر على الأسلحة، بل لابد أن تكون في هيئة جهد متواصل تشارك فيه “الحكومة بأسرها” على حد تعبيرهم، حيث يتم حشد الهيئات المدنية خلف أهداف عسكرية، أو برلمانية.
وعلى الرغم من الجهود الشاقة، فقد افترض أنصار هذا المفهوم توفر الإجماع السياسي المستدام لدعمه. وقد هوجِمَت الولايات المتحدة بشراسة على أي حال.
واليوم بدأ ذلك الإجماع يتفكك بينما يتصارع ساسة أميركا مع ميزانية فيدرالية تحولت هي ذاتها إلى حرب طويلة لها ضحاياها. وتشير خطوط القتال في هذا الصراع إلى الافتقار إلى الإجماع بين النخب السياسية فيما يتصل بأي شكل من أشكال الإنفاق، ناهيك عن حرب طويلة تشتمل على التزامات بعيدة المدى.
ونتيجة لهذا، فإن الافتراضات الأساسية تصبح موضع تشكيك وتساؤل عند كل منعطف. والواقع أن حرب الموازنة الحالية تبدو وكأنها تعيد فتح جراح الانقسامات القديمة حول نظرة أميركا لنفسها والعالم. والنتائج أبعد ما تكون عن اليقين، ولكن حتى الانعزالية، التي تُعَد بمثابة داء أميركي خالد، تبدو وكأنها عادت من جديد.
إن الانعزالية تشكل عادة أميركية مألوفة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين عناصر اليمين التي تعتبر الولايات المتحدة أرقى من أن تشغل نفسها بهموم ومشاكل العالم، وأيضاً بين أهل اليسار الذين ينظرون إلى أميركا باعتبارها قوة عالمية مدمرة. ولكن في هذه المرة، وربما على نحو غير مسبوق على الإطلاق، تحرك الانعزاليين من الحزبين دوافع مرتبطة بالميزانية.
إن الأزمة المالية الأميركية عميقة للغاية، وهي ليست مجرد أرقام. إذ كما توحي المشاعر في واشنطن اليوم، فإن الكراهية الشديدة لفرض أي زيادات ضريبية أصبحت أشد عمقاً من المخاوف المرتبطة بتأثير هذه الزيادات على الأداء الاقتصادي الحالي ونمو فرص العمل. فهي جزئياً تمثل وجهة نظر أساسية -وقد يعتبرها البعض أصولية- مفادها أن الضرائب بالنسبة للحكومة أشبه بزجاجة الخمر بالنسبة لمدمن الخمر. والحكومة، كما أخبرنا رونالد ريغان، هي المشكلة وليست الحل.
وتمثل هذه الرسالة نبأً سيئاً بالنسبة للدبلوماسية الأميركية. والواقع أن الارتباط بين عدم رغبة الساسة في تمويل البرامج المحلية والالتزام المحفوف بالمخاطر بالحرب الطويلة قد يفوت على المسؤولين في دوائر السياسة الخارجية الأميركية، ولكنه واضح جلي في نظر بقية الأميركيين. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الأميركيين يريدون الحفاظ على العديد من البرامج المحلية “النسبية” -المدارس، والمستشفيات، والبنية الأساسية لوسائل النقل، والمتنزهات الترفيهية.. إلخ- التي أصبحت الآن على طاولة التقطيع في المفاوضات الخاصة بالميزانية.
ففي أماكن مثل المناطق الريفية في مقاطعة “إل باسو”، على السهول الشرقية من ولاية كولورادو، بعيداً عن مركز مناقشة الميزانية الفيدرالية، تحول الحديث عن خفض الإنفاق إلى حوار يومي شائع. والآن تعمل المناطق التعليمية على زيادة أحجام الفصول مع استغنائها عن المعلمين، فضلاً عن تأجيل مشاريع الصيانة وخفض خدمات الحافلات المدرسية. وتخلف هذه التخفيضات تأثيراً حقيقياً مباشراً على المقيمين في مقاطعة “إل باسو”. ولكن يجوز لنا أن ننتظر منهم حقاً، هم وغيرهم من الأميركيين الذين يفقدون خدمات بالغة الأهمية، أن يترفعوا عن كل هذا ويبادروا إلى دعم التمويل المخصص لبناء مدارس جديدة في أفغانستان؟
والمسألة ليست فقط أن المدارس العامة في أميركا بدأت تظهر وكأنها من الدرجة الثانية، بل وبنيتها الأساسية أيضا، التي ظلت لفترة طويلة تشكل مصدراً للفخر الوطني. وكم من زوار البلاد اليوم قد لا ينتبهون إلى الفارق بين المطارات الآسيوية الجديدة التي تتسم بالكفاءة وبين المطارات التي أصبحت كالمتاحف المكتظة في بعض المدن الأميركية الرئيسة؟
إن حرب الميزانية لا تسفر عن أي قدر من الإجماع على إصلاح البنية الأساسية في أميركا، ولكنها بدأت تفرز وجهة نظر مفادها أن التورط في دول مثل أفغانستان وباكستان لا يصب في المصلحة الوطنية الأساسية للولايات المتحدة على الإطلاق. ويتساءل الناس: لماذا تمثل المدارس والطرق في أفغانستان والعراق أهمية أعظم من تلك التي تمثلها المدارس والطرق في كولورادو أو كاليفورنيا؟ فعند نقطة ما من العام 2008، كانت المؤسسة العسكرية الأميركية تتحمل تكاليف نقل نمر إلى حديقة الحيوان في بغداد على سبيل المثال. تُرى متى كانت آخر مرة قامت فيها الحكومة الأميركية بنفس الشيء لصالح حديقة حيوان أميركية (خارج واشنطن بطبيعة الحال)؟
إن الكيفية التي ستنظم بها هذه المناقشة نفسها سوف تخلف تأثيرات عميقة على الكيفية التي تتعامل بها أميركا مع العالم. ولكن هذا الأمر قد يؤثر سلباً أيضاً على الكيفية التي يتعامل بها العالم مع البند الأسرع نمواً من الصادرات الأميركية اليوم، أو المشورة غير المطلوبة.
إن أي دولة قد تتقبل نصيحة دول أخرى لأسباب عديدة. فهي قد تحترم حكمة الناصح وبصيرته في بعض الأحيان (وهو أمر نادر في العمل الدبلوماسي)، أو قد تخشى العواقب المترتبة على عدم الأخذ بمشورتها، أو كما هي حال في العديد من المعاملات الدبلوماسية الأميركية، فإن تقبل المشورة قد يفتح الأبواب أمام علاقات أفضل ومساعدات إضافية. أو نستطيع أن نقول باختصار إن الدبلوماسية -وخاصة الدبلوماسية الأميركية- تشتمل على المال غالبا.
ولكن ماذا لو لم تتوفر الأموال التي يمكن عرضها؟ وماذا لو رفض الأميركيون، الذين ملوا من تخفيضات الموازنة التي تؤثر على نوعية حياتهم، تقديم الدعم لأي تمويل حتى للحرب الطويلة؟ عند تلك النقطة، قد يصل مسؤول أميركي كبير إلى بلد ما، فيعرض المشورة، فلا يجد من يكلف نفسه عناء الإصغاء إليه.

*عميد كلية كوربل للدراسات الدولية بجامعة دنفر، وقد شغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شرق آسيا، وسفيرا للولايات المتحدة إلى العراق، وكوريا الجنوبية، ومقدونيا، وبولندا.
خاص بـ “الغد” بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock