أنا عانس!

.. وأعني تماما ما أقول، ليس الأمر رغبة مني بإثارة فضولكم تجاهي، ولا لأستدرَّ عطفكم فتشكلون من أجلي، ومن أجل آلافٍ مثلي، يُخطئون في تقدير المحطة التي يمرُّ منها القطار، جمعية للمحافظة على نوع إنساني قليل الحظ!

اضافة اعلان

كلُّ ما في الأمر، أنني وجدتُ مرادِفاً لغوياً يشرحُ حالتي؛ فأنا عانس، كوني شابا أمعنَ قليلاً في الثلاثين، ولم أستطع الباءة التي تضمنُ لي نصف الدين على الأقل!

ولما صارَ بإمكاني أنْ أقوم بتأثيث منزل، (أو عشة تضيقُ بزوجَيْ حمام)، وأنْ أدفعَ مهراً لا يقلُّ عن تسعيرة العُرف بالعملة المحلية (يُمكنُ استرداده من الزوجة لاستكمال شروط الحياة الزوجية فيما بعد)، ولما وجدتُ خاتماً لا يفيضُ عن بنصري الرقيق (.. ويُمكن أنْ يتحرَّك بمرونة عندما يفرغ عسل الشهر الأول).. بدأت أكتشِفُ قيمتي في "سوق الرجال"!

اعتقدتُ أنَّني "لقطة" وبالغتُ في إظهار قيافتي، وظننتُ أنَّ وسامتي (التي لا تختلف ملامحها عن هيئة محمد سعد حين يكون متزناً) يُمكنها أن توسِّعَ هامش مناورتي، وتجعلني أتعثر بفتاة "خرافية الحُسن"، و"رفيعة النسب"؛ تكون باختصار:"حلوة وأميرة ترضى بحصيرة"!

لكنني اكتشفتُ الخديعة متأخراً. كابرتُ في البداية وأهدرتُ عمراً آخر، أرفضُ الاعتراف أنَّ أكثر من قطار قد فاتني، وأنني وصلتُ إلى النخلة بعدما انقضى موسم البلح!

وها أنا اليوم، شاب من جملة شباب يخشون انقضاء الثلاثين، يبرِّرون عدم زواجهم؛ لأنَّ لا نسخة محلية من "هيفاء وهبي"، وأنَّ الارتباط قيدٌ اجتماعي، لا يكفلُ السهر حتى ساعات الصباح الأولى في "كوفي شوب" لحضور نهائي كأس العالم كلَّ أربعة أعوام! 

نحسنُ الكذب، ونسميه "تجمُّلا"، بالنسبة لي فقد أظهرتُ لفتيات كنتُ أرى فيهنَّ زوجات محتملات، أنَّ أوصافي شبه مكتملة؛ فرصيدي في البنك متجمِّدٌ في وديعة قابلة للكسر، وبيتي مستأجر لأنَّني كثير الضجر، وخيالي الهندسي أبعد بكثير من حداثة البناء في عمّان الغربية، وسيارتي قديمة لأن الشوارع مهترئة، وأنَّ أمر شرائي "موديل العام المقبل"، متوقف على مراعاة "أمانة عمان" مخافة الله في خلطاتها الإسفلتية!

ألمحتُ لكل الفتيات المقترحات، أنَّني لم أتزوج لأنَّ واحدة منهن لم تجمع كلَّ صفاتهن في شخصها، وأنََّ كثيراً من الأمور يجبُ أن تطرأ على فكرها وسلوكها..، قبل أنْ تقبلني هيَ بعلاً على مذهب الإمام الحنفي!

لكن الأمر بالطبع لم يكن كذلك؛ ثرثرنا كثيراً حتى تسرَّبَ العمرُ. عندها صار طموحنا واقعياً، لكن الواقع الآن لم يعد متوقعاً؛ كل يوم ندخلُ طوراً جديداً من الحياة، ولم تعد حلول كاظم الساهر وهاني شاكر مجدية؛ الأول أدخلنا معه خمسة عشر عاما "في مدرسة الحب"، ولم يعلّمنا إلا تدوين الهذيان على الحيطان، والثاني صدَّعنا بغناء ميلودرامي شديد الكآبة، راح يروِّجه على أنه الحكاية التي ستتكرر لا محالة مع كلِّ عاشق!

تقلصت حيلنا؛ بالنسبة لي ها أنا أقرُّ بما يقوله "مختار الصحاح" و"المنجد" و"لسان العرب"؛ فأنا عانس، عندي حلم غريزي بالأبوَّة، يلحُّ على قلبي، كلما طرق ابن أخي بابي، وأنامُ على وسادة خالية، يملؤها طيف "بنت السلطان" التي لا تأتي أبداً، وأدقق في أصابع كلِّ فتاة أصافحها، وأحسم أمري سريعاً، وأسأل أيَّ واحدة منهنَّ بعد ساعة من لقاء عابر:"مرتبطة"؟!

أنا عانس؛ ولديّ ساعة فسيولوجية تهرولُ إلى الأمام بلا تلكؤ، فلا تسألوني بعد اليوم عن تاريخ ميلادي!

[email protected]