"أنت منذ اليوم"

كانت رواية الكاتب الأردني تيسير السبول "أنت منذ اليوم"، من أكثر الأعمال الأدبية قربا لوجدان ووعي الفقيد ناهض حتر؛ فقد كتب عنها كثيرا، وهو الذي ساهم في جمع تراث السبول وإعادة نشره. "أنت لي يا وطني منذ اليوم" خلاصة حبر الوعي الوطني الأردني الذي خلط بالدم والتراب والفكرة المستحيلة.اضافة اعلان
صحيح أن العرب المعاصرين هم أكثر أمم الأرض قدرة على الانفعال وإثارة أقسى درجات العاطفة؛ سواء بالقدرة على الاستشهاد أو ارتكاب أبشع أنواع القتل، حسب ما يصف مكسيم رودنسون؛ وهم أكثر الأمم المعاصرة انهزاما في معاركهم على مدى أكثر من قرن، وعلى رأس هذه الهزائم ما اقترفته النخب السياسية والثقافية، لكن في مقابل هوان النخب الثقافية بقيت هذه الفئة من بين أكثر فئات المجتمع تضحية في سبيل التنوير واستشهادا بالمعنى التاريخي للكلمة، كما فعل مهدي عامل وفرج فوده وناهض حتر.
وسط صدمة جريمة الاغتيال الأسبوع الماضي، غاب التعريف الموضوعي للراحل ناهض حتر، فيما صنعت غيوم الكراهية غشاوة على عيون الناس تحول دون رؤيتهم للمشهد، وأي خسارة حلت بهم؛ سواء بالعودة للقيمة الفكرية والثقافية للفقيد، أو لطبيعة الحادثة ومعانيها الاجتماعية والسياسية.
يعد ناهض حتر بالمعايير الموضوعية، وبعيدا عن شغب الأيديولوجيات، مفكرا أردنيا بامتياز، يقف بين أهم خمسة من أبرز ما أنجبه المجتمع الأردني  من مثقفين خلال نصف قرن مضى، ولا تقل قامته عن مفكرين عرب آخرين؛ فقد رفد الفكر العربي بأكثر من 25 مؤلفا أصيلا في موضوعات فكرية وسياسية وثقافية، شكلت إضافة فارقة في مكانة ومساهمة الأردنيين في الثقافة العربية المعاصرة.
منذ أن أصدر أولى مساهماته في أواسط الثمانينيات، والتي جمع فيها أوراقا أردنية ووثق لمرحلة مهمة من النضال الاجتماعي والسياسي الوطني، ثم مساهمته في نقد فكر حسن حنفي إلى يوم وفاته، لم يتوقف حتر عن الإنتاج المعرفي والاشتباك السياسي. فالرجل كان طاقة جبارة، لا يتوقف عن الإنتاج والاشتباك. ويمكن تقسيم إرثه الفكري والثقافي إلى ثلاث مجموعات أساسية: الأولى، الإنتاج الفكري والفلسفي، حيث نقل مساهمات المثقفين الأردنيين إلى الفضاء العربي بقوة وجرأة، وكان من أوائل من نقد سردية الإسلام السياسي، ومن أول من نقد تجارب الماركسيين العرب والقوميين العرب على حد سواء. وضمن هذه المجموعة، تذكر "دراسات في فلسفة التحرر الوطني" التي ضمت أربع دراسات تأسيسية، وأيضا مؤلفه "في نقد الليبرالية الجديدة: الليبرالية ضد الديمقراطية"، وكتاب "المقاومة اللبنانية تقرع أبواب التاريخ"، ومؤلفه حول العراق ومأزق المشروع الأميركي، ومؤلفات أخرى كان فيها مدافعا عن فكر التحرر العربي ومدافعا نقديا عن التراث العربي والإسلامي. والمجموعة الثانية، وهي الأكثر اشتباكا، تناولت الفكر السياسي الأردني ونقد الحياة السياسية، ومنها كتاب "الليبرالية الجديدة في مواجهة الديمقراطية- قراءة في الحالة الاردنية"، وكتاب "وقائع الصراع الاجتماعي في الأردن في التسعينيات"، وكتاب "الملك حسين بقلم يساري أردني"، وكتاب "الخاسرون". أما المجموعة الثالثة، فتتمثل في جهوده توثيق التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي الأردني؛ إذ ساهم في عدد من المؤلفات في هذا الشأن، وساهم في جمع التراث الفكري والثقافي للعديد من المثقفين الأردنيين، ولولا جهود حتر لذهبت طي النسيان.
وبعكس ما يحاول البعض تصويره، فقد كان حتر ابن الدولة الأردنية والحريص عليها، على الرغم من معارضته القاسية للكثير من السياسات الرسمية. إذ مع هذا لم يتسلل الشك إلى إيمانه بالدولة الأردنية؛  كما كان مؤمنا بمشروع فيصل الأول وبأحلام النهضة العربية التي تكسرت على حدود ميسلون، بل وساهم حتر في تصعيد نخب ثقافية أردنية وتنجيمها عربيا، وساهم في تصعيد نخب سياسية على سلم الدولة.
تنتهي رواية "أنت منذ اليوم"، التي أحبها حتر أكثر من أي عمل آخر، بدهشة البطل المهزوم الذي حلم بوشم دولة عظمى، حينما يعود إليه صوت أستاذ التاريج يرن في أذنيه ويستفزه من جديد وهو يقول لطلابه: "القرون من الخامس الميلادي إلى العاشر الميلادي المعروفة بعصور الظلمة!".