أنجيلا ميركل.. مع السلامة

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تغادر المنبر بعد إلقاء كلمة في مقر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي -(أرشيفية)
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تغادر المنبر بعد إلقاء كلمة في مقر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي -(أرشيفية)

فيليب ليغرين*

لندن- لقبت بملكة أوروبا، ومنذ انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لقبت بقائدة العالم الحر. وعندما كان الاتحاد الأوروبي ينتقل من أزمة إلى أخرى، ساعدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقبضتها الثابتة، في الملافظة على تماسك الاتحاد. والجميع يتفق على أن أنجيلا ميركل ستترك فراغاً كبيراً عندما تسلم مهمتها لخلفها بعد الانتخابات الفيدرالية المقبلة في ألمانيا في العام 2021 -أو ربما قبل ذلك إذا انهار التحالف الكبير الذي أسسته.اضافة اعلان
لكن من المستبعد كثيراً أن يحصل هذا؛ إذ عرفت الأعوام الثلاثة عشر التي تولت فيها ميركل مهمتها اهتزازات على المستوى المحلي، وتراجعاً على المستوى الأوروبي. وقد تصرفت ميركل بلامبالاة، وفشلت في معالجة المشاكل الاقتصادية والأمنية المتزايدة في ألمانيا، وسمحت للعديد من الأزمات في أوروبا بالتطور. وقد تلقى سياستها المتوانية في الإدارة تسامحاً في دولة صغيرة تعيش فترة هادئة؛ لكنها كارثية بالنسبة لدولة تعد السلطة المهيمنة في أوروبا في زمن يشهد ظروفاً مضطربة.
وبخلاف العديد من الدول الأوروبية، عرفت ألمانيا نمواً اقتصادياً قوياً خلال العشر سنوات الأخيرة. لكن ميركل أسهمت بالكاد في هذا النمو؛ إذ لم تحث حكوماتها الأربع على أي إصلاحات مهمة للنهوض بالاقتصاد. وأدى هاجس هذه الحكومات بإحداث فائض في الميزانية إلى فشلها في الاستثمار في البنية التحتية المتآكلة لألمانيا، والنظام التعليمي. ولم تفعل ميركل أي شيء لتحضير ألمانيا لمواجهة العرقلة الرقمية التي تهدد أن تفعل بأهم قطاعاتها الصناعية- خاصة صناعة السيارات- ما فعلته هواتف آيفون بنوكيا. وستندم ألمانيا على عدم إصلاح مشاكلها عندما سمحت الظروف بذلك.   
زادت الأزمة في منطقة اليورو من القوة المالية لألمانيا في اتحاد العملة. وأعطى ذلك قوة سياسية شاملة لميركل، التي كان من الممكن أن تستغلها بشكل جيد. وعوضاً عن ذلك، أعطت أولوية لمصالح ألمانيا كدائنة، مما دفعها لاتخاذ قرارات زادت من حدة الأزمة داخل منطقة اليورو، وحولت نفقاتها إلى آخرين، وحالت دون تطبيق أي حل طويل الأمد.
كما أن ميركل هي المسؤولة عن رفض الاتحاد الأوروبي إعادة هيكلة ديون اليونان في العام 2010. وكانت أيضاً وراء إقراض أموال دافعي الضرائب الأوروبيين للحكومات المتضررة من أجل إنقاذ البنوك الألمانية. كما أن حكومتها ردت على الأزمة المالية بالمطالبة بسياسية تقشف متطرفة، وتعديلات قاسية في الدول المدينة، على الرغم من أن فائض الحساب الجاري لألمانيا تضاعف. وعندما قطع رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، وعداً أعطى الضوء الأخضر "لاتخاذ كل الخطوات اللازمة" لإبقاء اليورو متماسكاً، لم تقم ميركل إلا بما يلزم لإنقاذ العملة الواحدة، من دون تصحيح مواطن الخلل في الاتحاد المالي المعطل والناقص.
من المؤكد أن ميركل تستحق التنويه لأسلوبها المعتدل الهادئ والذي يبعث على الطمأنينة، في وقت دمر فيه ترامب النظام الدولي الحر، وتعرف فيه بريطانيا وهنغاريا وبولندا وإيطاليا وغيرها من الدول، اندفاعاً هائجاً للقوميين المتعصبين والمتطرفين. وكان قرارها استقبال أكثر من مليون لاجئ خطوة إنسانية جريئة بشكل غير عادي. وبينما أذلت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، نفسها عندما خضعت لترامب، دافعت ميركل عن القيم الليبرالية ومبادئ الدولانية. وعلى عكس العديد من كبار السياسيين في ألمانيا، واجهت أنجيلا مضايقات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتصرفاته العدوانية.
لكن القيادة الفاترة لميركل جعلت ألمانيا معرضة بشكل استثنائي للثورة القومية الحديثة. فالأمن الاقتصادي والسياسي والجيوسياسي للبلد ترتكز بالتحديد على ثلاثة أشياء يريد القوميون تدميرها: الأسواق النشيطة المفتوحة للصادرات الألمانية؛ واتحاد أوروبي مندمج يثَبِّت مكانة ألمانيا في أوروبا وفي العالم؛ والمظلة النووية الأميركية التي تضمن الدفاع عنها.
إن ألمانيا ليست محتالة في التجارة، كما صرحت بذلك إدارة ترامب. ومع ذلك، فقد اعتمدت ألمانيا في عهد ميركل استراتيجية نمو ميركلية تعتمد على سياسة إفقار الجار وخفض الأجور وتشجيع التصدير بأي ثمن. نعم، لا تسير الحمائية على المسار الصحيح، لكن سياسة ميركل تشجع هذا المسار. ولو كان على ألمانيا فعل المزيد لتشجيع الطلب المحلي لخُدِمت المصالح الألمانية والأوروبية والعالمية بأكملها.
لا يمكن لوم ميركل على البريكسيت أو على العديد من الصعوبات التي تعيشها إيطاليا، التي هي من صنع نفسها. إلا أن سياستها في منطقة اليورو هي السبب الرئيسي وراء انتخاب إيطاليا حكومة شعبوية تتعهد بمنع الاتفاقيات التجارية للاتحاد الأوروبي في المستقبل، وتشعل فتيلة أزمة الهجرة، وتهدد ببأزمة أخرى في منطقة اليورو.
لن تكون منطقة اليورو آمنة حتى تتشارك ألمانيا وإيطاليا بتراض في اتحاد نقدي. وقد يكون تحقيق هذا أمراً مستحيلاً. لكنه إذا كان هناك ترتيب قابل للتطبيق، فإن ذلك سيتطلب إصلاحات كبيرة، كما أشار إلى ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الماضي. وبالتالي، كان تشجيع ميركل لجهود ماكرون الإصلاحية فرصة ضائعة.
وفيما يتصل بالأمن، على الرغم من أن ميركل اعترفت بأن ألمانيا لا يمكنها الاعتماد بشكل كلي على الولايات المتحدة الأميركية لتدافع عنها، فقد فعلت بالكاد شيئاً للنهوض بالقدرات العسكرية لأوروبا وألمانيا. وظل ما تنفقه البلاد على الدفاع غير كاف، مما يعطي ترامب ذريعة لإضعاف مكانة الناتو. وتتضمن ترسانة الأسلحة العسكرية المتآكلة دبابات لا تدُب، وغواصات لا تغوص، وطائرات لا تطير. ونادراً ما نوقشت الحاجة إلى السلاح النووي، سواء من الجانب الألماني أو الأوروبي.
وإذن، بعيداً عن التراجيديا، سوف يشكل خروج ميركل فرصة للإصلاحيين الأوروبيين. وقد اتخذ ماكرون وحلفاؤه الأوروبيون خطوة صحيحة بالتركيز في حملتهم للانتخابات البرلمانية الأوروبية في أيار (مايو) المقبل، على التهديد الذي تشكله شعبوية اليمين المتطرف. لكن ماكرون، رغبة منه في عدم إغضاب شريك قوي، فشل حالياً في مواجهة القيادة الأوروبية الخاطئة لميركل. ومع اقتراب ميركل من الخروج، سيكون لدى ماكرون وغيره من الإصلاحيين فرصة للترويج لأوروبا مختلفة تناسب الجميع. وإذا لم يستغلوا خروجها، فسيفعل ذلك مشعوذو اليمين المتطرف.

*مستشار اقتصادي سابق لرئيس المفوضية الأوروبية، وزميل زائر في المعهد الأوروبي في معهد لندن للاقتصاد، ومؤسس شبكة الاقتصاد السياسي المفتوح (OPEN)، وهي مؤسسة فكرية دولية مهمتها تعزيز قيام مجتمعات منفتحة وليبرالية. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "الربيع الأوروبي: لماذا اقتصاداتنا وسياساتنا في فوضى -وكيف نصححها".