أنظمة ما بعد الثورات: تشخيص الأزمة

لم تعد خافية الأزمة التي تعيشها الأنظمة السياسية الصاعدة في عصر ما بعد الصحوة العربية أو الربيع العربي. ورغم أن الحالة المصرية تبدو في الصدارة، إلا أن الحالة التونسية أو الليبية أو اليمنية لا تقل عن مصر من حيث المشاكل المركبة التي تواجه الأنظمة الصاعدة التي ترتبط شرعيتها في جزء منها بثورات تلك الشعوب على الاستبداد. لكن هذا جزء من الحكاية؛ فالنصف الثاني مرتبط بالرأي العام الذي هو الآخر لا تقل أزماته عن أزمة النخبة السياسية، بل وربما أن تفاقم مشاكله مرتبط بتلك النخبة السياسية.اضافة اعلان
ثمة تشخيص يمكن أن ينطبق على حالة الأنظمة في دول الثورات العربية، ربما يعين على إدراك ما يجب أن يتخذ لتفادي الآثار السلبية للأزمة المستمرة. ومن أهم عناصر هذا التشخيص التركة الثقيلة للاستبداد وأهله بعد سنوات من الحكم بلا أدنى مسؤولية، أمام أي سلطة. هذه التركة يمكن ملاحظتها في القوانين والمؤسسات التي صيغت لتكون في خدمة فئة لا خدمة مجتمع. وهذه التركة لا تواجه بما يمكن مشاهدته من سذاجة سياسية، بل ثمة حاجة إلى تجاوز الشخصنة نحو المؤسساتية.
الصراع على السلطة في مصر اليوم، على سبيل المثال، سببه تلك التركة التي جعلت المدعي العام غير مسموح المساس به، فيما المساس بكرامة الملايين من البشر مشروع؛ فلم يستدع تعديلا قانونيا. ومحاولة الإمساك بالعصا من الوسط، والمحافظة على بعض المؤسسات متماسكة، يعني عدم التغيير والتعديل في عمل تلك المؤسسات، كما يظهر في الإعلام والقضاء والتربية والسياسة الخارجية وغيرها! لكن الوضع الجديد الذي تخلقه أي ثورة يستلزم هذا التغيير، ولم يشهد التاريخ أن نظاما سياسيا حافظ على تركة نظام ثار عليه، وإلا فإن سؤالا مهما سيطرح حول جدوى الثورة، إذا كان القصد هو المحافظة على الوضع السابق كله.
وفي التشخيص أيضا ثمة عامل مرتبط بالنضج السياسي الذي يتمتع به من يحكمون في عصر ما بعد الثورات. وهؤلاء على ثلاث فئات: معارضة نال منها القمع ما نال، فبقي في نفسها ما بقي من غضب وأسى؛ وفئة لم تعمل في السياسة لكن واقع الثورة دفع بها إليها، وتبدو متأثرة بالشعار والهتاف، وترى أن التغيير يجب أن يحدث بسرعة؛ وفئة ثالثة نالت شيئا من الحظ في ظل الأنظمة السابقة، لكنها ترى أنها يمكن أن تؤدي المزيد، وأن ما قامت به كان للمجتمع وليس لنظام بعينه.
هذه الفئات تتطاحن، وسيد الموقف بينها هو سوء الظن وانعدام الثقة. ودائما ما تكون تحالفاتها، إن وجدت، غير معمرة. ولهذا العامل اتصال بتركة الاستبداد، وهو غير بريء مهما حاول البعض تبرئته.
وهناك عامل آخر يتعلق بغياب حد أدنى من التوافق على الأولويات التي يمكن أن يسير فيها المجتمع حتى يبلغ مراده؛ الدستور والقوانين، أم الخدمات، أم الأمن..؟ ووسط مناقشة هذه الأولويات تزايدت الفجوة بين نخب منقسمة على كل شيء.
إن الثقافة السياسية التي رُوج لها في دول عربية عديدة، تلعب دورا في مثل هذا الانقسام، وتعزيز الفشل في الحصول على أي توافقات. ولعل هذا الفشل مرده إلى وجود فئتين من النخبة في دول ما بعد الثورات العربية: "نخبة شعبوية" ترى في الناس، بغض النظر عن أي عامل آخر، مؤشر القياس الوحيد لما يجب فعله وما لا يجب؛ و"نخبة عاجية" ترى الأشياء من الأعلى، وتعتبر أن الشعب ضروري عند الخطابات، فيما قواعد الاتصال معه تكاد تكون منقطعة. وأمام هذا كله، تبقى تلك الأنظمة وتلك المجتمعات تدور حول نفسها، في حالة من المناكفة والمشاكسة السياسية كثيرة الكلام قليلة الأفعال!
وإذا كان يمكن تشخيص الأزمة في ما سبق ذكره، فإن الخروج من الأزمة قد يكون ممكنا في ظل ولادة نخبة سياسية بين النخبوية والعاجية. ويسبق ذلك ثورة على دواخل الذين يرون أن الحقيقة لهم، ورثوها كابرا عن كابر، وأن الآخرين هم زبد قد يمكث في الأرض، لكنه لا ينفع الناس.

[email protected]