أولويات التربية والتعليم

الدكتور ذوقان عبيدات *

هذه المقالة هي وجهة نظر شخصية لا تهدف إلى نقل رسائل إلى أحد، ولا تهدف إلى نقد عهد مضى، وتهئية المسرح للعهد الجديد! ولذلك تنطلق من المسلمات الآتية:

  1. تقوم وزارة التربية والتعليم بمسؤوليات ضخمة، وقد حققت نجاحات واضحة في بعض مسؤولياتها.
  2. تضم الوزارة كفاءات وخبرات كثيرة ليس أغلبها في الصف الأول، حيث لا توجد آلية للبحث عن كفاءات في الصف الثاني والثالث. وتعيين هذه الكفاءات يتعرض لكل أشكال عدم الموضوعية، فالضغوط على أصحاب القرار عالية.
  3. تحتاج الوزارة إلى إحداث هزات خفيفة بهدف تنمية مهارات الإحساس بالمسؤولية عند قياداتها. علماً أن الهزات هي استراتيجيات لزعزعة "الدولة العميقة في الوزارة" وهي أقوى وأعمق بكثير من الثقافة التقليدية التي نحكمها.
  4. يمكن إحداث التغيير المنشود في أداء الوزارة وإنجازاتها إذا تمت مراعاة عدد من الأولويات.
    وهذه المقالة هي وجهة تظهر هذه الأولوليات:
    (1)
    أولويات تنظيم البيت الداخلي
    تمتلك الوزارة كل الإمكانات الكافية لإحداث هذا التنظيم. فالأداء والإنجاز يعتمدان على وجود أداة فاعلة. والإدارة كما هو معلوم تخطيط وتنظيم بالدرجة الأولى إضافة إلى إرادة قوية.
    لا أزعم أنني خبير في بيئة الإدارة التربوية، ولكن علينا أن نحميها من الأمراض التالية:
  • ثقافة التنافس والتناحر بين القيادات ما يوجه طاقاتها إلى النفاق والمجاملة بدلاً من الإنجاز.
  • الخضوع للضغوط الاجتماعية والمناطقية في تعيين الوظائف القيادية.
  • حصر مجتمع القيادات بالأفراد الذين يطفون على السطح بعيداً عن وجود آلية للكشف عن القيادات، ومن خبرتي مع كل موظف في الوزارة يشعر بعدم وجود هذه الآلية.
  • العمل الفردي المستقل بعيداً عن شبكات أو علاقات شبكية بين القيادات، فكل يعمل بمفرده، وما في المناهج قد لا يكون معروفا في التعليم.
  • وجود العلاقات الهرمية، فكل مسؤول يتلقى وينافق للمسؤول الأعلى. فالمبادرات قليلة، والمسؤول يعتقد أنه الأكثر فهماً.
  • غياب الاختصاص واللجوء إلى سنوات الخدمة كمعيار للعمل والاختيار. فقيادات الوزارة معظمها فنية يشغلها غير المختصين. وما زلت أذكر كيف أنني كنت الوحيد في الوزارة الذي يحمل دكتوراه في المناهج، وكيف قالوا لي ممنوع أن تكون في المناهج، حيث أهدوا وظيفة مدير المناهج إلى من يحمل ماجستير لغة عربية!!! وبالمناسبة هذا ليس موقفاً شخصياً أو حادثة منفصلة.
    إن تغيير هذه الممارسات ليس سهلاً. فالتربية كما قلت وزارة عميقة متجذرة في ضمير كل العاملين فيها. ولحسن الحظ أن الوزير ليس من بينهم ما يعطيه القوة على استخدام إرادة التغيير. ولا يجوز أن تبقى سنوات الخبرة هي ما يعوق نمو القيادات.
    (2)
    البيت الخارجي
    إن العمل التربوي مكشوف. فما يجري في صف أو مدرسة ينتقل فوراً إلى المجتمع، وكذلك ما تقرره الوزارة يصل المجتمع بلحظات. والمجتمع قديماً وحديثاً كان موجهاً للوزارة. ولكنه الآن صار قائداً، متنمراً، آمراً، ناهيا. وقد لمست تنمر المجتمع على الوزارة وعلى وزيرها النعيمي، وكيف أنه ربما أبعد نتيجة ضغط المجتمع.
    وأذكر هنا جمعيات وجماعات نظمت نفسها للضغط على الوزارة وكيف نجحت حملة ما في جر الوطن إلى غابة الفيروسات حيث فتحت المدارس بناء على ضغط عدد من السيدات.
    طبعاً للمجتمع الحق في التدخل، ولكن الوزارة تركت هذا المجتمع والجماعات دون تواصل ولم تضعها في الظروف التي تملي القرارات. بل تركوا هذه الجماعات لمتنمرين ما زالوا يحرضون على فتح المدارس فوراً!! ولذلك، فإن الحل هو التواصل بين الوزارة وجماعات الضغط والاقتراب منهم وتفهم مطالبهم بل ومجاراتهم والتعاطف معهم قبل شرح معطيات القرار. نعم، تنمرت هذه الجماعات لأن جهود الوزارة نحوهم لم تكن كافية!! ولذلك قد يكون الحل في:
  • تشكيل فريق مجتمعي يعمل استشاريا في الوزارة، يضم خبراء المجتمع من خارج الوزارة وبعضهم الآخر من الوزارة، يقدم تقارير مسؤولة دورية، لتكون جزءاً من القرار.
  • زيادة قدرة الوزارة على الوصول إلى هذه الجماعات كي تفهم طريقة تفكيرها، وتلتقي معها، أو تقنعها أو تتنازل لها، وهذا يتطلب إعلاماً ناشطاً ومفقوداً..
    وسأتحدث عن الإعلام فيما يأتي:
    (3)
    إعلام الوزارة
    تمتلك الوزارة جهاز إعلام ضخما، وكفاءات جيدة، مع أني أرى أن الإعلام التربوي هو مسؤولية كل مركز تربوي. فمديريات التربية والمدارس موجودة في كل مكان. ولم يسمع لها أي دور إعلامي في أي مرحلة. فالتنمر الاجتماعي أو بعضه على الأقل قد يكون نتيجة نقص في المعلومات أو ورود معلومات خاطئة عبر إشاعات. وفي كل الأحوال فما هذا التنمر بغياب الإعلام التربوي!
    فالمطلوب:
  • أن يقوم كل جهاز تربوي بالإعلام عن نشاطاته وقراراته، ففي الوزارة من تجارب وتقارير ونجاحات وإبداعات ما يستحق نشره وتسويقه. إن مديري التربية في المحافظات ومساعديهم والعاملين معهم وقفوا يتفرجون على الهجوم على الوزارة ومشروعاتها وكذلك وقف مديرو المدارس والمعلمون – ربما بسعادة – على الهجوم على الوزارة.
    إن توترات المعلمين – سواء كانت مبررة أم لا – كانت سبباً في بهجتهم لأي نقد يوجه للوزير والوزارة.
  • الإعلام التربوي هو إعلام مبادر واستباقي، ومسؤول عن تهيئة الرأي العام للقرارات القادمة. بل يقنعه بأن يكون طرفاً في الدعوة لها. فالقرارات الناجحة لا تأتي فجأة.
    وفي خبرتي، لم يمارس الإعلام التربوي هذا الدور عبر تاريخه!!
  • كلفت من الوزير السابق بإعداد خطة إعلامية. كانت الخطوة الأولى أن يقوم كل مدير إدارة بتزويدنا بأبرز ثلاثة تغيرات يريد إحداثها في عمله حتى يقوم الإعلام بشرحها. وأبلغتني الزميلة الجابري- الإعلامية في الوزارة، أن أحداً من المديرين لم يجب على كتاب موقع من الوزير بهذا الشأن!!
  • من خرج من الوزارة مدافعاً عنها لم يكن يمتلك مهارة إعلامية واضحة. فلم تقدم الوزارة نماذج إعلامية ناجحة، وكان بعضهم كأنه يسمّع درساً عليه إبلاغه للإعلام.
    لعل المطلوب هو اهتمام إعلامي وخطة إعلامية يسهل وضعها وربما ما زالت أدراج الوزارة تحتفظ ببعض خطوطها.
    (4)
    التعليم
    يصعب الحديث عن التعليم في مقالة، ولا شك أنه واجه أزمة جديدة إضافة إلى أزماته السابقة تمثلت في التعليم عن بعد. وقادت الوزارة بحدود إمكاناتها خطة للتعليم عن بعد، أسميتها بخطة إنقاذية، ولكن تنمر المجتمع أرادها تعليماً متفوقاً. وصارت المقارنات بين التعليم الوجاهي والتعليم عن بعد دون مراعاة للظروف التي دفعت للتعليم عن بعد. المهم أن التعليم بشقيه عن بعد وعن قرب:
  • كان تعليماً تلقينياً، لم تتح الفرصه للطلبة بالمشاركة أو التفكير أو الإبداع. فكان المطلوب حفظ المعلومات وكانت الجودة في وصول المعلومات القابلة للنسيان بعد فترة قصيرة.
  • إن تركيز الوزارة على الامتحان أضاف مدخلاً جديداً للهجوم عليها، حيث اتهمت بأنها تمتحن الأمهات لا الطلبة.
  • لم تشرح الوزارة أن الامتحانات منذ خمسين عاماً كان يجرى بعضها في المنزل- فيما يعرف امتحان الكتاب المفتوح. طبعاً لا تلام الوزارة، فهي لم تدرب الطلبة على المسؤولية والاعتماد على الذات، لكن زرعت عند الأهالي والطلبة قيمة الدرجات العالية، والتنافس على الحصول عليها.
  • إن فرص تعليم التفكير ما زالت واسعة الأبواب وسهلة التنفيذ، وربما كان المطلوب: التمييز بين مادة التعلم ومادة الامتحان. فليس المطلوب أن يمتحن الطالب في كل ما تعلمه. إن صقور الامتحانات في الوزارة وخارجها ما زالوا يؤمنون: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. بدلاً من أن الامتحان خبرة تعلم جديدة لحل المشكلات!!
    ويرتبط التعليم بكل من التدريس والتدريب والنشاط والإشراف.
  • فالتدريس عملية يقوم بها المعلم دون مشاركة من الطالب، وقيم التدريس ما زالت:
    معلماً نشطاً، بصوت قوي، حازم، يشرح ويكرر، يسأل ولا ينتظر الجواب.
    وطالباً مستجيباً، هادئاً، بل ممنوع من الحركة.
  • والتدريب ما زال هرمياً مفروضاً على المعلمين بغض النظر عن حاجاتهم يحدد المسؤول مكانه ومدته وزمانه ومحتواه وأهدافه دون مشاركة معلم!
  • والإشراف التربوي، ما زال زيارات للاطلاع على ما يجري، ومناقشة ما جرى، دون إطلالة على المستقبل.
  • والنشاط على الرغم من وجود حصتين، ووجود دليل ناحج جداً، لم يستخدم الدليل إطلاقاً، ولم تخصص الحصص لهذا النشاط بل توزع على دروس ومواد مهمة.
    لعل المطلوب في كل هذه الأوضاع استثمار الفرصة لتشكيل فريق فني لوضع استراتيجية التربية في المستقبل ويفضل أن يكون الفريق وطنياً.
اضافة اعلان

(5)
تغييرات سريعة مطلوبة

  • إصلاح التعليم عن بعد، فلدينا في المدارس الخاصة وبعض المدارس الحكومية ما يفوق كثيراً ما قدمته الوزارة عبر منصاتها.
  • تحييد الامتحانات عن التدريس، وعن صقور الامتحانات. فالتقييم في الاتجاهات الحديثة عملية تعلم وليس قياساً للمتعلم وما أحوجنا إلى ذلك في ظل الظروف الحالية.
  • نشر ثقافة المساءلة والتمييز بين الأداء والإنجاز وثقافة أن كل شخص مسؤول عن إحداث سلسلة من التغييرات في مجاله.

التربية عملية وطنية، لذلك يجب أن تتاح الفرصة لكل الكفاءات داخل الوزارة وخارجها للمساهمة في ذلك .

*خبير تربوي