أولوية برامج التحصين الوطنية

يُفضي تراجعُ القيمة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة لأميركا إلى تشكُّل تعدديةٍ للأقطاب في هذه المنطقة، وهو ما تُرحّب به دولُ الخليج العربية على مستويين: الأول تعددية الأطراف الدولية الفاعلة والمنخرطة في شبكة العلاقات والمصالح والنفوذ في الشرق الأوسط، والثاني رفض منطقِ الدولة الإقليمية العظمى التي تهيمن على شؤون الإقليم، والتي تستعيد مع هذه الهيمنة مفاهيم قديمة عن "شرطي الخليج" والقوة المركزية فيه. مثل هذه الصيغة لشرق أوسط ما بعد "الربيع العربي" والاتفاق النووي الإيراني وما بعد تخفيف الهيمنة الأميركية فيه وعليه، لا يعني الغياب الأميركي عن المنطقة أو تركها لموسكو أو بكين وغيرهما. فحتى مبدأ "التدخل عند تعرّض المصالح الأميركية للخطر"، الذي تُرسيه "عقيدة أوباما"، إنما تعني ضرورة إدارة معادلة حماية النفوذ وتوسيع تلك المصالح الأميركية من غير الاعتماد على حضور الجيش الأميركي بالمجمل، ليبقى التدخل هو الاستثناء، وتحت المحدد المذكور. والخوف أن يكون ذلك نافذة لتكريس التقسيم في المنطقة وتشجيع إضعاف الدول الوطنية وإعادة الهندسة على حساب العرب، في ظل عدم جدية العمل الجماعي العربي وبناء القوة الذاتية بمفهومها الشامل وليس العسكري فقط. ولذا من المهم للدول العربية أخذ هذه السيناريوهات باهتمام كافٍ وجدية عالية؛ لأن ثمة مؤشرات عديدة على عدم استحالة وقوعها في المدى المتوسط. ولا نأتي بجديد حين نقول إن بناء القوة يشمل برامج وطنية لتحصين الجبهات الداخلية عبر الإصلاحات السياسية الحقيقية وإشاعة الحريات وبناء قواعد للبحث العلمي ورفع جودة التعليم ومحاربة الفساد والاستثمار في تطوير الكفاءات الوطنية.اضافة اعلان
التحول الاستراتيجي في علاقة الإقليم مع القوى الدولية الكبرى، يُنبئ، على الأرجح، بأنّ الصين والهند، وليس موسكو فقط، ستلعبان دوراً أكبر في توفير أمن المنطقة في المستقبل، وملفا الطاقة ومحاربة الإرهاب من أبرز مسوغات ذلك، ناهيك بتوجّه دول الخليج أكثر فأكثر لـ "تنويع شراكاتها الاستراتيجية". وينبّه باحثون أميركيون إلى أنه، حتى مع تعددية الأقطاب الدولية في الشرق الأوسط، سيبقى لأميركا دور تلعبه في دمج القوى الصاعدة في البنية الأمنية الحالية بطريقة سلمية، وتبدو التفاهمات والتقاطعات الأميركية - الروسية في سورية نموذجاً لنوع من الحضور الأميركي والتأثير الذي يكبح أوهام الحديث عن انسحاب واشنطن وتصويره كغيابٍ مُطلقٍ أو "حَرَدٍ استراتيجيّ"، والسبب في هذه الأوهام عدم التنبّه لتصاعد أهمية الشراكات الجماعية و"القيادة من خلف" التي تتبناها واشنطن، وربما الرغبة في لعب دور "الحَكَم" بدلاً من "شرطي العالم"، كما لمّح إلى ذلك توماس فريدمان.
بالأمس جاء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، إلى السعودية، بعد زيارة تاريخية قام بها إلى دولة الإمارات في آب (أغسطس) الماضي، ليغدو بذلك مستجيباً للتغيرات البنيوية التي تَحدُثُ منذ "الربيع العربي" في موازين القوة والنفوذ وشبكة المصالح في المنطقة، وهو بهذا المعنى قد يُدشن مرحلة تتجاوز "إعلان دلهي" عام 2006 و"إعلان الرياض" في 2010. ومودي، إذْ ينتهزُ الفرصة والتهيّؤ للدخول في معادلة التعددية القطبية، إنما يسارع لأخذ موطئ قدمٍ في ظِلّ منافسةٍ واضحةٍ مع الصين من جهة وباكستان من جهة ثانية، وتبدو فكرة التعاون الدولي الجماعي لمكافحة الإرهاب ورغبة البلدان الثلاثة في تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية مع بلدان المنطقة مدخلاً لشراكات شاملة بعيدة المدى، يصعب معها فصل الاقتصاد عن السياسة والأمن، ما يفرض تحولات مفصلية في السياسة الخارجية لهذه البلدان تنسجم، بالضرورة، مع الانخراط في التعددية القطبية للقوى الدولية المشاركة في صوغ مشهد الشرق الأوسط بعد "عقيدة أوباما"، التي من المرجح ألا تكون لحظة عابرة في التاريخ السياسي الأميركي، ما يؤكد مجدداً أولوية برامج التحصين الوطنية.