أوليغاركية خيّرة.. أوليغاركية شريرة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- (أرشيفية)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- (أرشيفية)

فلاديسلاف إينوزيمتزيف*

بحسب أكثر التعريفات شيوعاً، يُعرّف الأوليغاركي بأنه شخص تعتمد ثروته على الاتصالات والعلاقات السياسية -لا سيما بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن. وقد حددت وزارة الخزانة الأميركية 96 شخصاً على أنهم "أوليغاركيون" وأدرجتهم على لائحتها المسماة بلائحة بوتن -وهي قائمة عقوبات ومراقبة وُضعت في كانون الثاني (يناير) الماضي- فقط بناء على حقيقة امتلاكهم أكثر من مليار دولار أميركي.اضافة اعلان
*   *   *
موسكو- في ظل قلق متنام في الولايات المتحدة وأوروبا مما يسمى بالقلة المنتفعة الحاكمة (الأوليغاركية) في روسيا والأموال التي أخفتها في الخارج، يجدر بنا أن ننظر في مسألتين أساسيتين. الأولى: من هو الذي تنطبق عليه مواصفات الأوليغاركي؟ والثانية: هل يستحق كل أوليغاركي أن يُنظر إليه بعين الريبة؟
بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل الارتياب القاعدة والأساس بلا شك؛ حيث أعلنت سلطاتها عقوبات ثقيلة ضد اثنين من أباطرة المال والأعمال الروس، هما أوليغ ديريباسكا وفيكتور فيكسلبيرغ، كجزء من حملة لمعاقبة الكرملين على تدخله المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016. كذلك نفذت بريطانيا، في أعقاب الهجوم بغاز الأعصاب على العميل المزدوج الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في إنجلترا، إجراءات جديدة تهدف إلى منع غسل الأموال، بإخضاع تدفقات رؤوس الأموال القادمة من روسيا إلى أشد أشكال التدقيق والمراقبة.
تكمن المشكلة الأساسية في بقاء المعايير التي تستخدمها الحكومات الغربية لتحديد الروس الذين يستوجبون التحقيق في أمرهم، بل والعقوبة، فضفاضة للغاية. وبحسب أكثر التعريفات شيوعاً، يُعرّف الأوليغاركي بأنه شخص تعتمد ثروته على الاتصالات والعلاقات السياسية -لا سيما بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن. وقد حددت وزارة الخزانة الأميركية 96 شخصاً على أنهم "أوليغاركيون" وأدرجتهم على لائحتها المسماة بلائحة بوتن -وهي قائمة عقوبات ومراقبة وُضعت في كانون الثاني (يناير) الماضي- فقط بناء على حقيقة امتلاكهم أكثر من مليار دولار أميركي.
ولكن، حتى التركيز على العلاقات مع بوتين يظل في الحقيقة معياراً ناقصاً ومعيباً. فعلى الرغم من كل شيء، نجد أن كثيراً من رجال الأعمال الأثرياء المعروفين اليوم في روسيا، بما فيهم ديريباسكا (الذي تفرض الولايات المتحدة عقوبات ضده) ورومان أبراموفيتش (الذي حمته إسرائيل)، إضافة إلى ميخائيل فريدمان مؤسس مجموعة ألفا، وفلاديمير بوتانين الرئيس التنفيذي لشركة نوريلسك للنيكل، قد بدؤوا نشاطهم في عهد بوريس يلتسن، سلف بوتين.
فضلاً عن ذلك، فإن بعض الأثرياء الروس الذين استفادوا من علاقاتهم بالكرملين في الماضي هربوا بالفعل من روسيا، وأصبحوا يباشرون الآن أعمالهم في الغرب أو يعيشون هناك في المنفى. وقد منحت بريطانيا حق اللجوء السياسي لرئيس بنك موسكو السابق، أندريه بورودين. أما يفغيني شيشفاركين، وهو مستثمر كبير سابق في مجال الهواتف المحمولة، فقد شارك بنشاط في حملات ضد بوتين منذ هروبه من روسيا في العام 2009. كما قضى ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان ذات يوم أغنى رجل في روسيا، عشرة أعوام في السجن بتهم احتيال واختلاس ملفقة بعد إقدامه على تمويل خصوم بوتين.
بالنظر في هذه الحالات، نجد أن الغرب بحاجة لتعريف أكثر تدرجاً بحيث يميز الأوليغاركيين "الفاسدين" عن البقية. وينبغي أن يشمل مثل هذا التعريف، أولاً وقبل كل شيء، التورط المباشر والحالي مع قيادات الكرملين في الصفقات التجارية والشخصية، بما في ذلك العقود الحكومية الضخمة الحساسة سياسياً. وهناك مثلا أركادي روتنبيرغ، الملياردير صاحب النفوذ الذي أنشأ خطوط أنابيب غاز لصالح شركة الطاقة العملاقة المملوكة للدولة "غازبروم"، والذي يقوم حالياً ببناء جسر إلى شبه جزيرة القرم.
ويمكن إدراج محاباة الأقارب ضمن مثل هذا التورط المريب. ففي تسعينيات القرن الماضي، اعتمد بيوتر أفين، أحد كبار المسؤولين بمجموعة ألفا، صفقات تجارية مثيرة للجدال عقدها بوتين في سان بطرسبيرغ عندما كان يشغل منصب وزير الشؤون الاقتصادية الخارجية، كما قامت مجموعة ألفا بتوظيف كل من زوج ابنة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والابنة الكبرى لبوتين نفسه. وفي مثل هذه الحالات، يعمل الأوليغاركيون المتورطون هنا كخدم مخلصين لنظام بوتين بشكل واضح.
ينبغي أن يكون هناك معيار ثان لتعريف الأوليغاركي "الفاسد"، وهو أن تكون روسيا هي المقر للجزء الأكبر من تعاملاته التجارية، ويكون بالتالي معتمداً على دعم حكومي ضمني على الأقل. ويعني هذا إمكانية استثناء الكثير من الأثرياء الروس، الذين باعوا في السنوات الأخيرة أجزاء من ممتلكاتهم وحصصهم في روسيا واستثمروا في الدول الغربية (ربما بسبب العقوبات، ولو جزئياً على الأقل).
من هؤلاء على سبيل المثال أبراموفيتشن، وهو حاكم سابق لإقليم تشوكوتكا الواقع في القطب الشمالي، أو ميخائيل بروخوروف، الذي خاض الانتخابات الرئاسية الروسية في العام 2012 كمرشح مستقل، أو ألكسندر ليبيديف، الذي اعتاد دعم صحيفة نوفايا غازيتا مالياً لفترة طويلة. كل هؤلاء باعوا جميع الأصول التي كانوا يمتلكونها في روسيا تقريباً، وسعوا إلى تأسيس شركات على أساس قانوني وشفاف في الولايات المتحدة وبريطانيا. ألا ينبغي أن يعامل هؤلاء بطريقة مختلفة عن أمثال روتنبيرغ، ويوري كوفالتشوك (المعروف ببنك بوتين الشخصي)، أو إيغور سيتشن، النائب الفعلي لبوتين، ناهيك عن موظفي روسيا العموميين فاحشي الثراء؟
لا شك أن كل شخص جمع ثروة كبرى في روسيا فعل ذلك بالتعاون مع الدولة، ولو جزئياً على الأقل. لكن هذا لا يعني أنهم جميعا يستحقون اليوم عقاباً متساوياً. فقد كان كل من يواكيم نابليون مورات وجان-بابتيست برنادوت أداتين طيعتين في يد نابليون. ولكن، بينما التزم مورات بمؤازرة نابليون والوقوف بجانبه (على الرغم من إعدامه في النهاية بتهمة الخيانة)، فقد لعب برنادوت، بصفته كارل الرابع عشر يوهان ملك السويد، دوراً كبيراً في هزيمة نابليون في نهاية المطاف.
لا يتبع الجميع مبدأ التعميمات المطلقة كأساس للتعامل مع أثرياء روسيا. فقد منحت إسرائيل جنسيتها لأبراموفيتش، كما أدهشتنا فرنسا بصورة أكبر حينما أسقطت تهمة غسل أموال ضد ملياردير آخر، هو سليمان كريموف، رغم احتفاظه بعلاقات وثيقة مع الكرملين لكونه عضواً في مجلس الاتحاد الروسي.
لكن بعض الجهات، مثل الإدارة الأميركية، تواصل تعميم الحكم على كل أثرياء روسيا استناداً إلى تجارب معينة، وهو ما يؤدي إلى مردود عكسي. وإذا أراد الغرب حقاً النيل من نظام بوتين، فعليه أن يدرك أن منح الأوليغاركيين حافزاً لأخذ أموالهم ومغادرة روسيا سيكون أكثر فعالية بدرجة كبيرة من معاقبة هؤلاء الذين يعتبرهم بوتين أعداءه.

*مدير مركز الدراسات ما بعد الصناعية في موسكو.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيت سنديكيت".