أفكار ومواقف

أي بدائل لـ”نهاية التاريخ”..؟!

علاء الدين أبو زينة

ثمة نهايتان أساسيتان يمكن التفكير فيهما لنهاية التاريخ: الأولى، غير المجازية، هي انتهاء الحياة البشرية على كوكب الأرض، أي نهاية الوجود الذي يعي التاريخ، فيتوقف من حيث علاقته بنا، كنوع مدرِك.

وثمة «نهاية التاريخ» الفوكويامية، التي تتصور الشكل النهائي الصالح للشؤون البشرية. وكما هو معروف، كانت أطروحة فرانسيس فوكوياما هي أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية.

وبذلك لا تعني نهاية التاريخ نهاية العالم وتوقف الأحداث، وإنما إجماع البشرية على صلاحية وشرعية الديمقراطية الليبرالية وحدها والكف عن البحث عن بدائل.

الآن، ثمة انقلاب واضح على صلاحية «نهاية التاريخ» بمفهوم فوكوياما. ثمة شكوى متواصلة من اللامساواة الفظيعة التي ينطوي عليها الغرب الليبرالي، وإدواره العالمية المناهضة عمليًا للديمقراطية والتحرر والسيادة الشعبية.

وقد عاش فوكوياما ليرى تهافت أطروحته وخطل فكرته الهيغلية عن الجدلية كقوة دافعة للتاريخ، حصليتها الارتقاء المتواصل للفكر البشري الذي انتهى عند ذروة «الديمقراطية الليبرالية» اليوتوبية. وأصبح فوكوياما ضائعًا في محاولاته التوفيق بين أطروحته الأساسية وعدم تحققها الواضح.

قبل فوكوياما، لم يكف البشر عن مطاردة «الشكل النهائي» للتاريخ. وطرحت الأديان الرئيسية نفسها كحلول نهائية للمعاناة البشرية ووصفات لمجتمعات، بل عالم يسوده الانضباط والسلم والأخلاق، ليتبين أن الأديان أصبحت وسيلة استغلها الأقوياء لشرعنة سلطتهم، وجعلوا منها مبررًا للحروب الدموية في كل العصور.

كان الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة ذريعة لتخطئة الآخر، ثم استهدافه بحجة إخراجه من الضلال وتنويره وهدايته إلى الحقيقة نفسها.

وحتى في الدين الواحد، انقسم الناس إلى طوائف وشيع متحاربة، في صراعات هدفها النهائي توسيع رقعة الأرض ومدارات النفوذ والسيطرة على الموارد. وتجسدت هذه الغايات في تآلف الكولنيالية مع الدعوية التبشيرية، حيث رافق المبشرون الحملات العسكرية لاستكمال مهمة «التنوير» وتقاسم الغنائم المادية كحق «مشروع».

وفي نفس الإطار، طرحت الاتجاهات الاستعادية للأديان نفسها كحلول، عن طريق البحث عن الصيغ الأولى الأقدم والأنقى من الأديان. فكانت الاستعادية، أو «الأولية» المسيحية الداعية إلى استعادة المسيحية كما كانت الكنيسية الرسولية المبكرة.

وكانت الإصولية الإسلامية التي دعت إلى استعادة نموذج السلف الصالح. وكانت «الاستعادية» اليهودية التي وظفت المفهوم في تبرير استعمار فلسطين على أساس «الوعد الإلهي».

ولم تكن الاستعادية الدينية إلا سببًا في تعميق التعصب والتطرف العدواني الذي أضاف فقط المزيد من المشاركين في الشجار العالمي الدموي.

وفي مرحلة مهمة سابقة، طرحت المادية الجدلية نفسها كمنهج مثالي لتفسير العالم وتوصيفه، وأنتجت الشيوعة والنظم الاشتراكية كنهاية مثالية وحتمية للتاريخ، حيث ينتهي التفاوت والتسلط والاستغلال لصالح توزيع عادل لفائض قيمة العمل، وتحييد دوافع الجشع وأسباب الشجار على الموارد.

وبدلًا من الكولنيالية القائمة على الانفصال والعرقية والقومية، ظهرت فكرة الأممية التي تفترض الانتماء إلى العالم والاتحاد الضروري لأصحاب المصلحة المشتركة الإنسانية على اتساع الكوكب. ولم تصمد هذه الفكرة أيضاً أمام النوازع البشرية إلى الهيمنة والاستئثار بالثروة.

باختصار، لم يصمد أي اقتراح حتى الآن لـ»نهاية تاريخ» أيديولوجية تجلب الاستقرار للجنس البشري المتعب. وإذا كان ثمة شيء يظهر الآن في خضم الفوضى التي أسفر عنها خلو العالم من مبدأ صالح يحظى بإجماع حقيقي، واستدامة الصراع الدامي بين الاقتراحات الفاشلة، فهو الحدث عن «نهاية العالم» بالمعنى الفيزيائي.

الآن، يتم التعبير عن المخاوف التي ليست بلا أساس من قدوم نهاية نووية، لا يطمئن إلى عدوم قدومها النمط المعروف عن المجانين الذين يديرون العالم دائمًا بطريقة انتحارية على المستوى البشرية الجمعي.

إنهم أصحاب الحروب التي يشعلونها وينخرطون فيها مع احتمال الهزيمة، وعلى طريقة «عليّ وعلى أعدائي». وهناك أيضًا النهاية «الطبيعية» للتاريخ عن طريق تخريب النظم البيئية والمناخية واستفزاز الطبيعة إلى أقصى حد.

ولم تعد السيناريوهات الدستوبية عن غرق السواحل واشتعال الغابات والتصحر أو التجلُّد خيالًا علميًا. وإذا كان المطر والبرد يهطلان في مكة المكرمة أكثر من بلاد الشام، وتواجه أوروبا وأميركا عواصف ثلجية وفيضانات، فليس من المستبعد أن يفضي سوء التعامل البشري –بدافع الجشع الوقتي- مع البيئة إلى إيقاظ الوحش الوحيد الذي لا يستطيع البشر تحديه بكل ما راكموا من إمكانيات: الطبيعة الغاضبة.

لا يبدو من حصيلة التجربة البشرية بما هي الآن أنها قريبة حتى من بعيد إلى نوع «نهاية التاريخ» الفوكويامية، لأن كل البدائل أثبتت عدم صلاحيتها. والأقرب، كما يبدو، هو نهاية تاريخ غير مجازية، تفضي إليها كل الطرق التي يطرقها كل أصحاب البدائل إياها الآن في كل مكان.

المقال السابق للكاتب 

توريط الإعلام في إسكات “الآخر”..!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock