إبراهيم غرايبة يكتب: لو كان لدينا مدن متكاملة

أظهر منع استخدام السيارات عيوب التخطيط العمراني والاجتماعي لمدننا وأحيائنا، وبدا في غاية الأهمية ما كان يقال عن المدن والبلدات والأحياء والشوارع والأرصفة في بلدنا وأنها مصممة على نحو عدائي مع المواطن أو على الأقل تتجاهل وجود الناس واحتياجاتهم.اضافة اعلان
لقد ردتنا الجائحة أو يفترض أن تردنا إلى الحقائق الأساسية، فالمدن في روايتها المنشئة هي أطفال يمشون إلى المدرسة ويعودون إلى بيوتهم، ورجال ونساء يذهبون مشيا على الأقدام إلى أعمالهم ومصالحهم ويعودون إلى بيوتهم، وفي ذلك يجب أن يكون في حدود دائرة قطرها ألف متر معظم ما يحتاج إليه الساكنون في هذه الدائرة، من مدارس وأسواق وخدمات واحتياجات، وهذا ليس اختراعا جديدا، فالعالم على مدى آلاف السنين ينظم حياته على هذا النحو. ما الذي حدث لنا لتكون مدننا وبلداتنا كأنها هباء منثور؟ في جميع أنحاء العالم وعلى مدى التاريخ والجغرافيا ترتبط حياة الناس اليومية بالمشي على الأقدام، وهكذا أيضا تخطط الشوارع والأرصفة والمرافق والمباني والحدائق والأسواق وتتشكل القرى والبلدات والأحياء، ثم الانتخابات العامة والجمعيات والأندية والقيادات الاجتماعية،.. وبغير ذلك لن يكون في مقدور الناس أن يعيشوا معا.
فالعيش معا في المدن هو قدرة الناس على معرفة بعضهم بعضا والتعاون والتنافس والتشاور، وأن يلعب الأطفال والفتيان معا في أمان ويشكلون فرقا رياضية وفنية وأعمالا تطوعية، ثم يكون في مقدور الناس أن يعرفوا على نحو دقيق احتياجات بعضهم بعضا ويوفروها بكفاءة ودون كلفة أو جهود إضافية، وسوف يدبرون أيضا الرعاية الاجتماعية والصحية ويلاحظون احتياجات المرضى وكبار السن والمعوقين، ويديرون معظم حياتهم واحتياجاتهم بمواردهم الذاتية أو بحصة من الموارد العامة وسوف يحققون وفرا في المال العام وتفعيلا للإنفاق وضمانا وترشيدا للعمل والخدمات.
لكن وعلى أي حال فإن الجائحة فرصة مهمة للتفكير وإعادة التفكير في التنظيم الاجتماعي للمواطنين ليكونوا أكثر قدرة وفاعلية في المشاركة وفي تحمل المسؤولية، بل هي أيضا مراجعة شاملة واستراتيجية للمؤسسات والأفكار والفلسفات المؤسسة والمنظمة للدولة الحديثة المركزية. هي لحظة وعي تاريخية قد نحتاج إلى مائة سنة حتى نستعيدها مرة أخرى، وإذا لم تتغير الذهنية العامة المحركة والمؤسسة لأفكارنا ورؤيتنا لما نحب أن نكون عليه وما يجب فعله لنكون ما نحب، ونتساءل بجرأة ووضوح حول كل فكرة أو مؤسسة هل بقى لها حاجة، هل ثمة حاجة للاستغناء عنها أو تغييرها، ولا بأس أن نتذكر متى وكيف نشأت المؤسسات والأعمال والمهن والوظائف والسلع والخدمات ومتى وكيف جرى تنظيمها على هذا النحو، ذلك أن تحويل واقع عملي ومعيشي أو تنظيمي أو سياسي إلى مبادئ مقدسة وثوابت وطنية يمنع التفكير الصحيح ويحمي طبقات ومصالح لم يعد لها حاجة أو أهمية، نحتاج ليس أقل من أن يجتمع الناس جميع الناس حسب أمكنتهم وأعمالهم ومصالحهم ويتساءلوا من جديد ماذا يريدون وماذا يحتاجون وماذا لا يريدون وماذا لا يحتاجون. وأن يبدأوا من لحظة الخوف والبقاء السائدة ليفكروا في مستقبلهم.
ففي ظلّ الخوف الذي يكتسح عالمنا الآيل للسقوط، والعالم المقبل غير الواضح، لم تعد الفلسفة السائدة والمنشئة لعالمنا ومؤسساتنا وواقعنا قادرة على حماية وعينا بذاتنا، ولا تشكيل وعي جديد، ولا نملك أيضاً القدرة على انشغالات تتقدمها انشغالات البقاء، ومواجهة الخوف على وجودنا وأعمالنا ومصائرنا، لكنّها، بطبيعة الحال، مرحلة انتقالية محدودة؛ إذ سوف تبدأ الموارد الجديدة بالتشكل، ومعها أسواقها ونخبها وأفكارها وفلسفتها.