إبراهيم غرايبة يكتب: معنى الحياة يعود إلى أصله

إبراهيم غرايبة
إبراهيم غرايبة

يدير الإنسان حياته وينظمها وفق قاعدتين أساسيتين: البقاء وتحسين البقاء، والبحث والتأمل، فكل ما يفعله في الواقع وتدور حوله حياته هو أن يعيش ويتجنب الخطر والموت، وفي ذلك فإن المجهود الإنساني يتركز حول الغذاء (لقمة العيش) والدواء والسكن، وفي البحث والتأمل أنشأ المهارات والمعارف والقيم والأفكار التي تحمي وجوده وتحسنه.اضافة اعلان
لقد وجد الإنسان أن الحياة هي القيمة الأساسية والعليا، ولم يكن التاريخ الإنساني سوى "الحياة"، وكل ما لدينا من إنجازات وتقدم وحضارات ومدن وثقافات وقيم ليست في واقع الحال سوى "حب الحياة" ولأجل أن تتكرس هذه القيمة الأساسية عبر الأجيال جعلها الإنسان المعنى الأساسي الذي يمنحه الرضا والسعادة، ويحدد على أساسه الصواب والخطأ، والضرر والنفع، والقبيح والحسن (الحق والخير والجمال).
ينظر إلى المسار والتطور الإنساني على أنه ثلاث موجات رئيسية، وهي الزراعة ثم الصناعة ثم المعلوماتية، وهو مسار يختزل بالطبع كثيرا من التحولات والتطورات في الحياة والقيم والأفكار، لكن ولأغراض المقال أشير إلى أن المعنى الأساسي للحياة كان يتمثل حول المورد الرئيسي والأكثر أهمية في كل عصر أو مجتمع أو حضارة، ورغم الاختلاف والتنوع، فهو في الإجمال في العصر الزراعي يقوم على التضامن والانتماء والمشاركة، وفي الصناعة مستمد من العمل، وفي المعلوماتية يقوم على الثقة، وبالطبع فإنها رموز مختزلة لا تظهر بوضوح كيف تتشكل الموارد والأعمال ثم الثقافة والقيم المحيطة بها.
يكثف مفهوم "الثقة" معنى الوجود الإنساني الذي بدأ بالتشكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو يعني ببساطة أن الإنسان يستمد أهميته وسعادته من ذاته وليس من خارجه، كما في مجتمعات وحضارات الصناعة؛ حيث يمنح العمل الأهمية والمعنى والشعور بالرضا للإنسان، وليس من الجماعة كما في مجتمعات وحضارات الزراعة، وفي ذلك يعود الإنسان إلى المعنى الأصلي لوجوده وحياته الذي كان يحفز الإنسان وينظم حياته منذ وجوده، ولم يتغير هذا المعنى إلى الانتماء والمشاركة إلا عندما بدأت الزراعة قبل 12 ألف عام تقريبا، ثم تغير إلى العمل في عصر الصناعة قبل ستمائة عام على أبعد تقدير إذا اعتبرنا أن المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر تؤسس لعصر الصناعة. ولكن الإنسان على مدى مئات آلاف الأعوام قبل الزراعة كان ينشئ حياته ومعناها بما هو فرد يحمي نفسه من الخطر.
وربما كان "السلام" هو القيمة المؤسسة للحياة الإنسانية، ويرمز إلى ذلك بقصة قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وفي تصحيح هذا الخطأ جعل الإنسان السلام القيمة العليا لأجل الحفاظ على الحياة، وأن من يقتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وصار الناس يدفنون موتاهم في ساحة محددة منحت القداسة والاحترام، هذه القداسة التي منحت للمقابر هي في أصلها تقديس الحياة وإعلاء شأن السلام الذي يحمي الحياة ويصونها، وبدأ الناس يتجمعون في هذه الساحات المقدسة مرة أو مرتين في العام، تكون عادة في الربيع وفي نهاية الصيف، وتجري الاحتفالات والطقوس وعمليات تنظيم العمل وتخزين الطعام، والتقاضي والتفاهمات، ثم يعود كل إنسان ليمارس حياته على نحو مما يلهمه البقاء والتأمل.
اليوم في مواجهة الوباء بما هو الخطر الأساسي الذي يهدد الحياة، تعود القيمة المؤسسة للوجود الإنساني، كيف يحمي وجوده وحياته، ولا يعود معنى يسمو على الحياة نفسها.