إخفاء الرأس في الرمال

تقتضي اللحظة الراهنة، الذهاب لمعالجات عميقة، نقرأ فيها مآلات التصور العربي عن التحضر والوحدة والأمة والتقدم والنهوض، وأي مقتضيات، تؤشر لانتشالنا من الحضيض.اضافة اعلان
وفي هذا المقام، يستدعى المثقف كـ”رافعة” واعية، أساسها الاحتفاء بالتنوير والعمل عليه، والانهماك بمشروع حضاري، لتمهيد الطريق للمجموعة، كي تتمكن من دخول العصر، والمشاركة في حركته التي لم نعد نراها لشدة سرعتها.
فالمثقف، نبض مجموعته، رائيها ومحركها ووجدانها، والفاعل الأكثر ديناميكية في صياغة تحولاتها، وانعتاقها من راهنيتها إلى لحظة متقدمة، مهمته تتطلب انعتاقا كليا للفعل؛ إذ لا يمكنه أن يكون محركا بدون أن يكون رياديا، متقدما الصفوف الأولى لصياغة مفاهيم جديدة، تغير المجموعة، وتسهم باجتراح معجزتها في التحول إلى ما يمضي بها للارتقاء.
إنه كليل، واقع في فخ الاستسلام لمآلات المجموعة، المتهيبة من تحريك أقدارها، والمتراخية عن النهوض، المسكونة بالترقب والتوجس، المرتهنة للماضي، والمكتفية باجتراره لتبرير وجودها، في انبتاتها عن الواقع، متماه مع المجموعة، ويغدو تفصيلا في كينونتها لا مفصلا، ما يقوده لأن يدخل في نمطيتها القابعة في العادي والاستهلاكي.
غائب تماما عن الحركة، قدرته على التغيير مثبتة بمسامير حاجاته اليومية التي يلاحقها أفراد المجموعة العاديون. صحيح أنه ليس “سوبرمان”، لكنه يقف بين السوبرمان والمختلف، فهو العقل الذي يتوجب عليه الانتقال من العادي إلى المناطق التي لم تطأها عقول المجموعة، أو تتهيب من لمسها.
هذا المثقف النائي بنفسه عن الفعل، لم يتزحزح عن جلوسه فوق درجة المنبر، يعظ، ولا يحرك ساكنا، قاعد بين كتبه وأوراقه، مكتئبا، مختنقا بسجائره وقهوته المرة، يصنع ما يسميه بـ”المعجزة” على الورق، بدون اقتراب من المجموعة، ليصدمها بما هي عليه من نمط، ويخلخل سكونها، ويبعث فيها روح التفاؤل والعمل والاندفاع نحو التغيير.
يبرر عجزه بالاستسلام لما يسميه “قدره”، لأنه لا يملك القدرة على الفعل، مبررا ذلك بغلبة السياسي، ومكنته من ضبط إيقاعه، وحرمانه من الحركة، كما يزعم.
مرتهن للأعطية حينا وللمنحة والأجرة اليومية على العمل حينا آخر، تحت ذريعة أنه لا يتقن سوى الثقافة، لم يجترح فكرته حول استقلاله، وصناعة موارده التي تنأى به عن الجلوس مستسلما لمنفعة مالية أو معنوية، أصبح كأي معلق اجتماعي على “فيسبوك”، مجرد عابر يُنسى بعيد ساعات من ظهوره.
لا يوجد مثقف عربي، يمكن ملاحظة تأثيره في مجتمعه، فلا أدوات تغيير لديه، أكثر من تلك الأوهام التي يطيل فيها لحيته أو عزلته. لا شيء حقيقيا مما يصوغه للوجدان العام، إنه أكثر من عادي وأقل من أن يكون مثقفا.
مسكون بأكثر من عقدة، يحلم بأن يشار إليه ككينونة واعية، مختلفة عن العامة أو عن السياسي والمتدين، لكنه في حقيقته منهمك بأغراض وجوده المادية، تحت ضغط الشعور بعدم وجود مساند موضوعي لمهمته، متذرعا بتقصير العامة عن القبول بمنجزه، أو تغاضيهم عنه، متناسيا أن فضاء حركته، محدد بالقول دون الفعل، ففي اللحظة التي يحتاج فيه منجزه، لأن يكون محركا، ينطلق هاربا من أي التزام، مخفيا رأسه في الرمال.