إدارة المكتبات في جامعة النجاح

د. جودت أحمد المساعيد

تتمثل مهام عضو هيئة التدريس الجامعي الرئيسة، في التدريس بكفاءةٍ عالية، سواء كان ذلك بالنسبة للطلبة في برامج الدراسات الدنيا، أو لأقرانهم في برامج الدراسات العليا، أو في المستويين معاً. هذا بإلإضافة إلى إجراء البحوث العلمية الرصينة التي تعالج مشكلات واضحة وتسهم في الخطط التنموية للبلاد، والعمل على نشر هذه البحوث في دوريات علمية مُحكمة ومرموقة عربياً وعالمياً، ثم تقديم الخدمات والاستشارات المتنوعة إلى أبناء المجتمع المحلي الذي ينتمي إليه الأستاذ الجامعي، وتكون في الغالب ذات العلاقة بالتخصص العام أو الدقيق له.اضافة اعلان
عند النجاح في أداء تلك المهام الثلاث، يستطيع عضو هيئة التدريس الجامعي، إذا ما عَرضَت عليه إدارة الجامعة العليا مناصب إدارية أكاديمية كي يتبوأها، أن يقبلها بدون تردد، وأن يبذل كل الجهود الممكنة من أجل إثبات نجاحهِ في المهمة القيادية الجديدة، مستعيناً بخبراته الجامعية السابقة لحل الكثير من المشكلات التي تواجه وظيفته الإدارية التي تمّ اختياره لها. فمرور الأستاذ الجامعي بخبراتٍ إداريةٍ أكاديمية مهمة، تمثل ضرورةً أساسية لصقل شخصيتهِ، والتدريب الميداني على كيفية التعامل مع الآخرين ممن حوله من الطلبة، وأولياء أمورهم، وأعضاء هيئة التدريس، وزملائهِ الإداريين.
ورغم مروري بخبرةٍ إدارية أكاديمية جامعية مدتها أربعة عشر عاماً قبل التحاقي أستاذا بجامعة النجاح الوطنية، إلا أن استدعائي العام 2000، من جانب رئيس تلك الجامعة آنذاك أ.د. رامي الحمدالله، إلى مكتبهِ وتوضيح ظروف مكتبات الجامعة ولا سيما الرئيسية منها، وأنها تُعاني من مشكلاتٍ كثيرةٍ، وتحتاج إلى ضبطٍ وتنظيمٍ وتطويرٍ في وقتٍ واحد، كي يردف قائلاً: نحن بحاجة إلى خبراتك الإدارية السابقة لتحقيق هذه المطالب الثلاثة، فقلت له: سأبذل كل جهدي في سبيلها، ولكن بالتعاون مباشرة معك، لا سيما بعد أن علمتُ أن مدير المكتبة يتبع مباشرة للرئيس مثل عميد الكلية تماماً. 
وما أن استلمتُ خطاب التعيين الرسمي مديراً لمكتبات الجامعة، حتى انتقلتُ إلى المبنى الضخم لها، القريب من مبنى الرئاسة، والذي تمّ بناؤه بخمسة طوابق، وبمساحة خمسة آلاف متر مربع، يتألف كل منها من قاعتين كبيرتين، بالإضافة إلى ثلاث مكتبات فرعية منتشرة في الحرم الجامعي بمواقعه المختلفة. وقد تمّ تشييد ذلك المبنى حسب أحدث المواصفات العالمية وقتها، وذلك على نفقة أحد الموسرين الفلسطينيين من عائلة الصائغ. واحتوت المكتبة الرئيسية وغيرها من المكتبات الأخرى الفرعية آنذاك على أربعمائة ألف مجلد ورقي وإلكتروني بلغاتٍ مختلفةٍ، وتشترك أيضاً بمجموعة كبيرة من الدوريات الإلكترونية والمطبوعة يقدر عددها  بسبعٍ وعشرين ألف دورية سنوياً، بالاضافة إلى مجموعة كبيرة من قواعد البيانات تقدر بحوالي أربعين قاعدة مختلفة. وكانت مكتبات الجامعة توفر خدماتٍ القراءة المتنوعة والمتعددة، يتمثل أهمها في الخدمات الإلكترونية وخدمة الإنترنت.
بدأتُ بسلسلةٍ من الاجتماعات الفردية مع كل موظفٍ فيها خلال الأيام الثلاثة الأولى، أطرح من خلالها العديد من الاستفسارات، من أجل تلمس نقاط القوة وجوانب الضعف فيها. وفي الوقت ذاته، طلبت من السكرتاريا تزويدي بالملفات، التي أخذتُ باستعراضها، حتى أتمكن من الإلمام بما تمَ فيها من اجتماعاتٍ وما صدر من خطاباتٍ رسميةٍ من المدراء السابقين وما استلموه من ردود.
أصبحت الصورة عندي واضحة إلى درجة كبيرة، عما كان يدور في المكتبة، قمتُ خلالها بالتحقق مما أورده الموظفون من معلومات، ومدى مطابقته أو مخالفته للصادر والوارد من الخطابات الرسمية. وقد أعقبتُ ذلك بالقيام بزياراتٍ ميدانية للموظفين كلٌ في قسمهِ، أجلس معه فترة من الوقت وأطرحُ عليه مجموعة جديدة من الأسئلة، في ضوء إلمامي بالمعلومات التي استقيتها منه ومن زملائه الآخرين، بل ومن الملفات الرسمية في وقتٍ واحد. وكم كانت تلك الزيارات مفيدة جداً بالنسبة لي، للتعرف إلى مهام كل فرد على الواقع الذي يمارسه بالفعل.
 وما أن انتهيتُ من تلك الجولات، حتى بدأتُ بوضع نقاطٍ عديدةٍ للاجتماعات الرسمية القادمة مع جميع موظفي المكتبات، والتي سيتم من خلالها مناقشة الانطباعات الأولية عما سمعتُ وقرأتُ وشاهدتُ في الأسبوع الأول من عملي مديراً لتلك المكتبات، والحصول على تعليقاتٍ أو إضافاتٍ جديدةٍ وعلنيةٍ من جانب هؤلاء الموظفين، بعد أن كانت قبلها عبارة عن لقاءاتِ فرديةٍ مع كلِ واحدٍ منهم على حِدة.
وكشفت الاجتماعات الرسمية مع الجميع، عن طروحاتٍ واقتراحاتٍ من جانبهم كانت غايةٍ في الأهمية، وذلك لتسليطها الضوء على الثغرات أو نقاط الضعف التي تواجه المكتبة الرئيسية بالذات، والتي كان يتمثل أهمها في فقدان أعدادٍ لا بأس بها من الكتب شهرياً، بسبب عدم وجود أجهزة اليكترونية للكشف عنها عند خروج رواد المكتبة منها، وعدم وجود شبك قوي ذي فتحات صغيرة على نوافذ المكتبة وبخاصةٍ في الطوابق السفلى. ولما سألتهم عما إذا كانت مثل هذه الاقتراحات قد تمّ طرحها  من قبل أم لا، أكدوا بأنه قد تمّ ذلك فعلاً، ولكن مع عدم القيام بأي جهودٍ واقعية تحول دون ذلك. هذا إضافةً إلى أمورٍ أخرى عديدة تتصل بنقص الكتب الجامعية التخصصية الجديدة، وعدم الاشتراك ببعض الروابط الإلكترونية المهمة جداً لطلبة الدراسات العليا مثل ملخصات رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراة العالمية Dissertation Abstracts International، وغيرها.
لذا، هاتفتُ مدير مكتب رئاسة الجامعة، طالباً منه تحديد موعدٍ قريبٍ جداً مع الأستاذ الرئيس، لمناقشة أمور مهمة تتصل بالمكتبات، وتنظيم أمورها المختلفة، وتفعيل خطوات تطويرها نحو الأفضل. وفي ذلك اللقاء، كان الحديثُ في غاية الصراحة، وأنه إذا لم تُتخذُ الإجراءات السريعة في هذا الصدد، فإن الهدر سوف يستمر، وسوف يتأثر دور المكتبات سلبياً على روادها من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس والإداريين. فما كان من رئيس الجامعة، إلا أن شكرني على تلك الطروحات، مؤكداً على أن الرئاسة تدعم كل خطوة ترفع من دور المكتبات المهم، وطلب مني الإسراع بكتابة كل ذلك وبالتفصيل الدقيق، ورفعه إليه، وسوف ينال الأولوية فوراً، واقترح البدء بالاتصالات الهاتفية مع شركات الحماية المكتبية الإلكترونية في نابلس ورام الله، من أجل استدراج العروض المناسبة.
وما أن رفعتُ تلك المطالب كتابياً، حتى قام الأستاذ الرئيس بتشكيل لجنةٍ من مدير المكتبات، ومدير اللوازم، ومدير الحاسوب، والمدير المالي في الجامعة، للمباشرة بالكشف عن الأوضاع على أرض الواقع، والاتصال بالجهات ذات الصلة خارج الجامعة وتقدير  المبالغ اللازمة لذلك، ورفعها بسرعة للرئاسة. ولم يمر شهرٌ واحد بعدها، إلا وقد تمَ تركيب الأجهزة الإلكترونية الدقيقة التي تضبط عملية الدخول والخروج، وتركيب مُنخل حديدي قوي حول جميع شبابيك المكتبة الرئيسية، ما حفظ مقتنيات المكتبة.
وقبل ثلاثة أشهرٍ من موعد افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، وبعد استشارة الاستاذ الرئيس، قُمتُ بتوزيع تعميمٍ رسمي على عمداء الكليات ومدراء المراكز العلمية، أطلبُ منهم تحديد الكتب العربية والأجنبية اللازمة لشرائها من ذلك المعرض، وتزويدي بقوائم رسمية خلال إسبوعين. وما أن تلقيتُ تلك القوائم، حتى رَفعتها للرئيس مع خطابٍ أقترح عليه تشكيل لجنةٍ من المدير المالي مع ثلاثة فنيين من المكتبة الرئيسة للجامعة، للتوجه للقاهرة خلال فترة افتتاح ذلك المعرض، من أجل شراء عدة آلاف من المراجع الموصى بها، أو تلك التي يرونها مناسبة من المعروضة أمامهم.
وافق الرئيس على ذلك كله، ولكن حصل ما ليس بمستغربٍ من سلطات الاحتلال الصهيوني، والتي رفضت طلب خروج اللجنة إلى معرض القاهرة، عقاباً لمدينة نابلس البطلة ولجامعة النجاح بالذات، على دورهما  النشط للغاية في انتفاضة الأقصى. وعندها، جاءتني فكرةً جديدة طرحتها شفوياً على الأستاذ الرئيس وتتمثل في كتابة خطابٍ مؤثر باسم الجامعة، يوجه إلى دور نشرٍ عربيةٍ عديدة، مع توضيح ما قامت به سلطات الاحتلال من منع شراء المراجع العلمية من معرض القاهرة، مع اقتراح سفري شخصياً كزيارة عائلية إلى العاصمة الأردنية عمان، وزيارة دور النشر فيها، وتسليمها ذلك الخطاب. أما عن باقي دور النشر خارج الأردن، فنرسل لهم الخطاب ونطلب منهم تسليم تبرعاتهم من الكتب والمراجع إلى سفارات دولة فلسطين في عواصمهم، والتي بدورها ترسلها إلى مكتب ارتباط جامعة النجاح في عمان.
وما كنا نأمله وأكثر قد حصل من أخوتنا أصحاب دور النشر العربية،  فقد انهالت على مكتب الارتباط، ليس مئات الكتب، بل الآلاف في أكياس ضخمة، وقد حصلتُ شخصياً بعد تسليمي لخطاب رئيس الجامعة من دار الفرقان، ودار الثقافة، ودار وائل، ودار الفكر، ودار الشروق في عَمَان، على عدة مئات من المراجع والكتب من كل واحدةٍ منها، إذ قال المسؤولون فيها: نحن مهما قدمنا لجامعة الصمود في نابلس نبقى مقصرين، وقد عبر بعضهم عن ذلك في رسالةٍ جوابية لرئيس الجامعة. وعندما عُدت لجامعة النجاح بعد أسبوعٍ فقط، كان وقع الأخبار التي وصلت للرئيس من مكتب الارتباط كبيراً، إذ شكرني شفاهةً ثم خطياً على هذه الخطوة المثمرة.
وقد لعبت المكتبة الرئيسة للجامعة دوراً علمياً ووطنياً بارزاً آخر في حالات الشدة. ففي أوقات الاجتياحات الصهيونية لمدينة نابلس التي كانت تمتد لعدة أسابيع، وتمنع الطلبة من الوصول للجامعة، فقد تمت مناقشات رسائل الماجستير عن بُعد، حيث توجد قاعة مزودة بالأجهزة والكاميرات التي كانت لجنة المناقشة تجتمع فيها، بينما يكون الطالب في مدينة غزة أو مدينة رام الله في قاعةٍ مماثلة، وتتم المناقشة علنياً وتظهر النتيجة بعدها. كما كانت تلك المكتبة مكاناً لعقد الدورات التدريبية أو المحاضرات التخصصية، التي يكون الهدف من ورائها تعميم الفائدة عن طريق تسجيلها وتوزيعها على المؤسسات والجهات ذات العلاقة.
باختصار، المكتبات تبقى ينابيع العلم والمعرفة لجميع الأمم والشعوب، ليس في أوقات الأمن والأمان فحسب، بل وأيضاً في أحلك الظروف والأزمان، لأن لها رسالة لا بد من تحقيقها على الدوام، وتتمثل في تسليح النشء الصاعد بأسلحة التفكير الناقد والتفكير الإبداعي اللذين يؤديان إلى تقدم الشعوب وتطورها، بدلاً من الاعتماد على الخرافات والأوهام، التي لا توصل أصحابها إلا إلى التأخر والجهل والخذلان.

[email protected]