إدراك الواقع على حقيقته هو العلم

أسامة شحادة

العلم فضيلة يدعيها الجميع ولكن الواقع يكذب الكثيرين من مدّعيها، لأن العلم لا يُنال إلا بكد وتعب ومفارقة للهوى وتقليد الناس، العلم منزلة باسقة لا يحوزها إلا من يستحقها ومستعد لأن يقدم الثمن، أخرج الإمام مسلم في صحيحه على غير عادته أثرا لطيفا عن يحيى بن أبي كثير قوله: “لا يستطاع العلم براحة بالجسم”، وهذا أمر واقع ملموس في علوم الشريعة وعلوم الدنيا.اضافة اعلان
وهذه الصعوبة والمشقة في الوصول للعلم هي لأن العلم هو إدراك الواقع أو الأمر على الحقيقة، ومن هنا فإنّ من انخدع بظواهر الأشياء ولم يدقق ويحقق في الأمور والواقع لن يحصل إلا على معرفة وعلم ناقصين أو مزيفين وغير سليمين، وما تميز من تميز في العلوم إلا بسبب ما بذل من جهد وعمل ووقت وحرص وإصرار.
ويتجلى هذا في سيرة حبر الأمة وترجمان القرآن، عبدالله بن عباس، الذي طفق سنوات من عمره وهو فتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجمع ما عندهم من علم متفرق حتى أصبح أعلم من كثير منهم، وأصبح يلقب بالبحر لسعة علمه وتفوقه على كثير من أساتذته من الصحابة الكرام بما جمع واستوعب، فبرز على أقرانه من الفتيان وسبق كثيرا ممن يكبره في السن وأكثر صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي علوم الدنيا نجد أن من بذل جهده وصبر وواصل البحث ارتقى في مدارج العلم، ولعل الكلمة المشهورة لأديسون: “أعرف 10 آلاف طريقة لا تصنع مصباحا كهربائيا” تلخص ذلك.
ولذلك العلم هو إدراك الحقيقة، وغالبا ما يرتبط العلم والحق معا، كما في قوله تعالى: “ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل” (الاحزاب: 4)، واستنادا لما جاء في القرآن والسنة يقرر العلماء كابن القيم في كتابه الفوائد: “العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس، والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج، فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح”.
ومن تأمل في كل ما ينسب للعلوم الشرعية والدنيوية وجد أن العلم الحقيقي منها هو ما طابق الحقيقة، فأي علم شرعي ليس له مستند من دليل شرعي من القرآن والسنة الصحيحة والإجماع والقياس فهو ليس بعلم على الحقيقة عند المحققين، كما أن أي علم دنيوي ليس له مستند من تجربة سليمة أو عقل صحيح فهو خرافة وجهل على الحقيقة.
وبسبب أن غالبية الناس لا تفهم بدقة مفهوم العلم هذا ومعناه بالتحديد فإنهم ينخدعون بكثير مما يروج ويظنونه علما وحقيقة، وحين يعتمدون عليه لا تحصل لهم النتائج المطلوبة، كمثل من اغترّ بدعاية لدواء ودفع فيه أموالا باهظة ولكن دون نتيجة.
وحين تكتمل دائرة الفهم والوعي بأهمية وضرورة العلم في كل المناحي والشؤون مع تحقق مفهوم العلم فإن الثمرة المرجوة لازمة التحقق بحسب سنن الله عز وجل في الكون، والخلل في تحقق هذه الدائرة هو ما يفسر سبب فشل كثير من الجهود والمحاولات والاجتهادات من تيارات متعددة لكونها لا تعتمد على العلم الصحيح الذي هو مطابقة وإدراك الأمر والواقع على حقيقته.
فمثلا، كثير من جماعات العمل السياسي الإسلامي، ما تزال في عماية عن فهم وإدراك حقيقة أهم مطلب لها وهو الوصول للحكم، وقد شرحت ذلك وفصلته كثير من الدراسات النقدية من الداخل ومن أهمها دراسة د. هبة رؤوف عزت “الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها”، وللأسف رغم كثرة الدراسات النقدية المخلصة إلا أن القيادات الإسلامية المهيمنة لا تستفيد منها على غرار القيادات الرسمية العربية!
وعلى صعيد جماعات العنف فإن خلل رؤيتها الشرعية وخلل رؤيتها للواقع أفرز كوارث عديدة حدت بقطاع كبير من قيادات هذه الجماعات للتراجع عن فكرها ونهجها، وقد رصد الأستاذ محمد توفيق العديد منها في كتابه “النقد الذاتي عند الإسلاميين (1) التيارات القتالية”، وللأسف هذه التجارب والخبرات معزولة عن الشباب المخلص المتحمس والذي يذبح كل مدة في تجارب عقيمة.
وبسبب عدم إدراك حقيقة خرافة التقريب بين المذاهب، فقد خدع بها كثير من النخب المرموقة زمنا طويلا وما يزال، وقد كان للاعتراف الشجاع والجريء للشيخ القرضاوي ود. عبدالله النفيسي ود. محمد عمارة بأنهم خدعوا بالتقريب فترة طويلة صدى كبير، ومثال بارز لدور العلم الكاشف للحقائق في توفير الجهود والأوقات ووأد الفتنة وتضليل الناس.
وعلى صعيد التيار القومي فعدم إدراك حقيقة حجم البعد القومي العربي في تراثنا وتاريخنا، حيث صور للناشئة أن القومية العربية بذاتها كافية للوحدة، بينما تاريخنا العربي قبل الإسلام مليء بالحروب الدامية بين العرب! وجعلت المغالاة الأيديولوجية في ذلك سببا لظهور النزعات الانفصالية للقوميات الأخرى كالأكراد والبربر في أوطاننا، والتي تزايدت اليوم.
وحتى الأنظمة والسلطات العربية فقد ظنت أنها بانتهاج الرأسمالية أو الاشتراكية قد سلكت مسار التقدم والنهوض، ولذلك أدارت ظهرها للاقتصاد الإسلامي ولم ترفع به رأسا، بينما اليوم العالم يئن تحت مصائب الرأسمالية والاشتراكية، بل حتى النموذج الصيني الذي يحاول البعض الاحتفاء به هو في حقيقته أسوأ نماذج الرأسمالية والاشتراكية فهو يحقق مكاسب ضخمة ونموا اقتصاديا كبيرا لكنه مقتصر على نخبة محدودة من القيادة السياسية والتجار ولا يجني فيه العمال الصينيون المكاسب التي يجنيها العمال في الغرب مثل التأمين الصحي والحوافز والرواتب المجزية والضمان!
وبسبب هذه المصائب تتعالى صيحات المنظرين الاقتصاديين العالميين لضرورة الالتفات للاقتصاد الإسلامي وتنميته للخروج من كارثة الاقتصاد العالمي القائم على الربا الفاحش أو انكار الملكية الخاصة، وبسبب الجهل بالاقتصاد الإسلامي أو محاربته في دولنا الإسلامية يعاني الكثير من دولنا أزمات مالية واقتصادية تتفاقم مع مرور الوقت.
عليه؛ فكلما رسخنا في وعينا الجمعي ضرورة العلم والالتزام به وأدركنا حقيقته القائمة على معرفة حقيقة الأمر أو الواقع ثم طبقنا ذلك فعليا أمكن لنا أن نستفيد من ثمرة العلم النافعة والدائمة، ويتجلى هذا في كثير من جوانب حياتنا، فحين شاعت المعرفة الشرعية الصحيحة بسنن العزاء مثلا زال الكثير من مظاهر البهرجة والتقاليد المرهقة كتكلّف أهل الميت بإقامة الخيم والموائد ولو بالاستدانة! وأيضا حين شاعت أحكام الميراث الشرعية انحسرت مظاهر الجاهلية من حرمان النساء من حقوقهن المالية بحجة عدم توريث الغرباء!
وكذلك على صعيد الدنيا، فكم تطورت الزراعة حين اعتمدت على الطرق العلمية الثابتة واستفادت من العلوم الجديدة، وكم خسرنا لما استعجلنا في تطبيق سياسات أو طرق أو أصناف زراعية دون تثبت علمي صحيح، فكانت هناك نتائج سلبية ولو بعد مدة.
ختاما، البحث عن الحقيقة (العلم) وسط أكوام الزيف والتضليل عملية شاقة خاصة إذا كانت الأدوات لا تسعف الباحث على مراده أو كان منهجه في البحث ليس سليما، ولذلك يجب أن نكمل دائرة الوعي بأهمية العلم وحقيقته بمعرفة مناهجه الصحيحة وأدواته السليمة وهو ما سنتناوله لاحقا.