"إذا سألتم الله فسلوه الفردوس"

د. محمد المجالي*

جعل الله الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، وخصها بما لم يخص به الأمم الأخرى؛ فهي الأمة الخاتمة، ورسولها الخاتم، وكتابها المهيمن؛ وهي الأمة الوسط والشاهدة على الأمم. وأمة هذه مقوماتها لن تموت، ولن يحول أحد دون انتشارها. وكما أخبر صلى الله عليه وسلم، فسيبلغ أمر هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وقد زوى اللهُ الأرضَ شرقها وغربها لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها. ومن هنا، فيريد الإسلام من أتباعه أن يكونوا في الطليعة، نفوسهم سامية، وهممهم عالية، فلا يرضى المسلم الحق أن يكون في الدون. اضافة اعلان
وليس غريباً أن يوجِّه الرسولُ أمته: "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس"، وهو أعلى الجنة، فلمَ يا ترى هذا التوجيه؟ أما كان بالإمكان الاكتفاء والرضا بدخول الجنة، وهو مكسب عظيم، لا يستشعره إلا من قرأ فعلاً عن الآخرة وأوصافها ونهايات مراحلها، بدخول جنة أو نار؟ والجواب البسيط أن هذه الأمة بخصائصها تحتاج إلى همم كالقمم، وعزم مؤكد بحزم، تنطلق واثقة بوعد الله من جهة، وثقة أبنائها وبناتها بها من جهة أخرى، تنشر الحضارة الحقة.
إنه الفردوس الأعلى من الجنة، حيث النبيون والصدّيقون والشهداء والصالحون، فلا يمنع أحدَنا أن يكون مع هؤلاء، فرحمة الله واسعة، ونيل الدرجات هو في مجال اختيار العبد وتوفيق الله. ومع استثناء النبيين، فإنّ بإمكان الفرد أن يطمح ليكون من الصدّيقين أو الشهداء أو الصالحين. وهذا ترتيب في الآية عجيب، يبدأ بالنبوة وينتهي بالصلاح، فما على العبد إلا أن يعزم أن يكون من الصالحين، وليحرص على نية الشهادة في سبيل الله، فإن طلبها بصدق فسيبلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه. وليحرص على الصدق واليقين والثقة المطلقة بالله تعالى، حباً واتباعاً وطاعة وانغماساً كاملاً في الولاء لله، حينها سيكون من الصدّيقين، فما الذي يمنعه حينها أن يكون في الفردوس الأعلى مع النبيين؟
عندما أتذكر ما ورد في حقّ أبي بكر رضي الله عنه، وأن إيمانه لو وضع في كفة، وإيمان الأمة في كفة، لرجح إيمان أبي بكر، وأنه ما فاق الناسَ بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في القلب، حينها حُقَّ لكل مسلم أن يتفكر ويسأل: ما هو هذا الشيء الذي وقر في قلب رجل نال به ما نال؟! إنه اليقين والحب الحقيقي لله ورسوله، وصدق الإيمان الذي يُقدِّم حقَّ الله ورسوله على حق النفس؛ فنصر رسول الله وأحبه وحماه وضحى بنفسه من أجله، وصدّقه لما كذبه الناس؛ يحميه في الهجرة بطريقة نادرة، يود لو يلحقه الأذى دون رسول الله، ويصف شربَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظمآن في الهجرة في خيمة أمّ معبد فيقول: فشربَ حتى ارتويتُ، وكأنه هو الذي شرب. وعندما أسلم أبو قحافة والد أبي بكر، وفرح الناس بذلك وكان عجوزاً، حينها بكى أبو بكر، ولما سئل عن ذلك قال: تمنيت أن الذي أسلم هو أبو طالب ليفرح بذلك رسول الله. هذا هو الحب الحقيقي لرسول الله، ولله وشرعه، وللأمة الموحِّدة، أو بعبارة أخرى، هذا هو الولاء الخالص لله ورسوله والمؤمنين.
ودعاؤنا لله أن يهبنا الفردوس، هو خطاب للنفس أن كوني على مستوى الطموح، وتهيئي للتضحية والتفاني وبذل النفس والوقت والمال والنصح، بل بيع النفس خالصة لله تعالى، عندها تترفع النفوس عن سفاسف الأمور، وتنشغل في معاليها، فمن ارتفعت همته ارتفعت نفسه وآماله.
ومما جاء في علو الهمة، ما ذكره ابن قتيبة: "ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعاً". وصاحب الهمة بقدر ما يتعنّى ينال ما يتمنّى، ولهذا قال الشاعر:
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها
تُنال إلا على جسر من التعب
وقال آخر:
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور
بغير اجتهاد رجوتَ المحالا
ولا بد من ذكر الآفات التي تعيق مسير الناس في الارتقاء. فمنها التردد، وهنا نذكر قول الله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله" (آل عمران، الآية 159)؛ ومنها الوهن، وباعثه حب الدنيا وكراهية الموت كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ ومنها الفتور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك"؛ ومنها إهدار الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"؛ ومنها الغفلة، والباعث عليها هو الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها، ويرتبط بالغفلة بشكل أو بآخر التسويف والتمني، ومنها النظر إلى من هم دونه في الهمة.
وفي العموم، فالنفس تميل عادة إلى الراحة والدعة، والشيطان لا يترك الإنسان من شره ووسوسته، هنا تمتزج البواعث العلوية والسفلة وتعكر صفو النية والعزيمة، ولا يتخلص الإنسان منها إلا بخلوة صادقة صافية مع النفس، يلومها لتكون من بعدُ مطمئنة، حين ترتبط بالله تعالى أملاً وحباً وتضحية.
ولا يضر صاحبَ الهمة قلةُ السالكين أو التفرّد، فقد قيل: "يا كبير الهمة، لا يضرك التفرد، فإن طرق العلاء قليلة الإيناس"، وقيل: "كبير الهمة عصامي لا عظامي"، يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالاً على حسبه ونسبه، ولا يضيره ألا يكون ذا نسب. وقد قيل:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيك محموده عن النسب
إن الأمة اليوم وهي تستعيد عافيتها وتنهض من كبوتها وتفيق من غفوتها، تستنهض همم أبنائها وبناتها، وتستدعيهم أن الزموا الصراط المستقيم، وثقوا بالله ووعده، واصدقوه يصدقكم، كونوا معه يكن معكم، أحبوه يحببكم، وانصروه ينصركم. فإن كان هذا كله، فالفردوس ينتظركم. اللهم ارزقنا الفردوس الأعلى، آمين.
*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية