إرهاب عميق كامن ومتقبل

لا يمكن الفصل بين العنف والقتل الوحشي بما هو فعل وسلوك مادي واقعي، وبين المشاعر والأفكار والمعتقدات العنيفة التي تملأ فضاء الأمم والمجتمعات التي تنتج القتلة والإرهابيين، أو البيئة المحيطة بهم. فما من جريمة إرهابية تقع، إلا كانت تطبيقا لدوافع ومعتقدات قوية ومؤثرة، تكفي للقيام بمثل هذه الجرائم بعزم وتصميم مسبق، وبعاطفة متأججة من الكراهية تمنع الشعور بالتعاطف مع الضحايا أو الشعور بالخطأ، بل وتنفيذ هذه الجرائم باعتزاز وفخر وساديّة.اضافة اعلان
والحال أنه قبل أن يُذبح رجل دين مسالم يبلغ من العمر 84 سنة، فإن عمليات ذبح واسعة جرت رمزيا في الخيال والعواطف والأحلام والأفكار الباطنة لدى القتلة وفي محيطهم المنشئ لأفكارهم واتجاهاتهم ومشاعرهم. وليس ممكنا تصديق جدية أو جدوى ما تفعله الحكومات والمجتمعات والأسر لأجل الاعتدال والتسامح، في ظل الانتشار الواسع والطاغي والمتقبل والمتواطأ عليه للعنف الكامن والراسخ في الثقافة والسلوك، والأسر والحياة اليومية، والمدارس والطرق، والمناهج التعليمية والكتب والتراث، ووسائل الإعلام والإعلانات التجارية والتسويقية و"الفيديو كليب"، والإدارة العامة، والأسواق، والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد، والأحاديث والمشاعر والأفكار واللاوعي والعقل الباطن... ففي هذا يظهر التقبل الواسع للكراهية والتمييز تجاه الآخر من أديان أو مذاهب أو فئات اجتماعية أو طبقات وأعمال وحرف وثقافات، سواء تجاه فئة من المواطنين أو الآخرين؛ إذ وببساطة لا يمكن فهم العنف المادي تجاه فئة أخرى إلا بالعنف الرمزي المؤسس له، فما من عنف مادي إلا وينشئه عنف رمزي!
ثمة مؤشرات كثيرة جدا في حياتنا اليومية والثقافية إلى العنف والكراهية والاستعداد للإيذاء أو القتل أو القسوة، وما تفيض به طريقة الناس في التفكير والحياة والتقييم وقيادة السيارات (وهذه ظاهرة تستحق وقفة طويلة مستقلة) والأحاديث والمجالس... تدل على قدر واسع كامن وعميق من العنف والتطرف والقبول بهما وتأييدهما في المشاعر والعقل الباطن، بل والأقوال والسلوك ولغة الجسد، كما الأفكار وما يتقبله الناس وما يرفضونه. بعض هذه الإشارات غامضة في نظرات العيون وفي لغة الجسد، يصعب أن تكون دليلا واضحا، ولكن من يتلقاها أو يتعرض لها أو يهتم بها يشعر بوضوح بمقدار الكراهية والنرجسية الذي يهيمن على حياة الناس وأفكارهم وسلوكهم؛ ما يؤسس للعنف والتطرف. ففي رفض تقبل واحتمال الناس بعضهم بعضا في المجالس والعمل والأسواق والمؤسسات، وعدم أو ضعف الاستماع والإنصات والمقاطعة، يبدو العجز عن التواصل والفهم، ومن ثم  بناء علاقات من التقبل أو مراجعة الذات والاستعداد لملاحظة عواطف ومشاعر وحاجات الآخرين.
وفي مستوى آخر من السلوك، يمكن ملاحظة مشاعر الاشمئزاز والسخرية من الآخر والاستغراق بالذات في فائض النصائح والشعور بالوصاية وامتلاك الحقيقة مما تفيض به المجالس وشبكات التواصل والندوات والمؤتمرات والأحاديث العفوية والمنظمة، من دون استماع حقيقي، وفي عزلة منيعة عما يقوله الآخر أو عن عواطفه ومواقفه أو محاولة الاستماع إليه وفهم ما يقصده بالفعل وما يريده.
وفيما يبدو اهتماما سياسيا وإعلاميا بالأخبار والأحداث المحيطة، يمكن أيضا ملاحظة الأحكام القاطعة والثقة والإعجاب بالذات وبالرأي والتحليل الشخصي، وعدم احترام المواقف والآراء الأخرى، أو محاولة استيعاب ما تتضمنه من خطأ أو صواب أو معقولية، ما يجعل الفضاء السياسي والاجتماعي والإعلامي حربا لا تقبل سوى إلغاء الآخر، وليس فقط الانتصار عليه.
وكما أنه يمكن الاستدلال على فرص وقوع حوادث سيارات عند ملاحظة الأطفال الذين يلعبون في الشوارع، أو غياب أرصفة المشاة أو ضيقها أو امتلائها بما يعوق حركة المشاة، وفي عدم الالتزام بقواعد السير وأنه لا يقلل من صحة الاستدلال عدم وقوع حوادث، فإنه يمكن ببساطة ووضوح الاستدلال على فرص العنف والقسوة المادية، بل والمشاركة في العمليات الارهابية والانتحارية. ولا يقلل، بطبيعة الحال، من صحة هذه الأفكار أن يكون الواقع القائم مخالفا لهذه التوقعات والاستنتاجات.