إصلاح القطاع العام: لكي لا ننسى الأجندة طويلة الأمد

محي الدين توق*

أظهرت جائحة كورونا التي ضربت الأردن والعالم كله، نقاط قوة في الدولة الأردنية لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، والتي يمكن البناء عليها لتقوية مناعة الدولة في المستقبل. ومن نقاط القوة هذه: قدرة مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة على العمل المشترك، والتنسيق فيما بينها بدرجه عالية من الموثوقية، والمرونة العالية في العديد من القرارات والإجرءات، وإدامة عمل مؤسسات الدولة بدرجه عالية من الكفاءة، وبعدد لم يتجاوز نصف عدد الموظفين الحكوميين.اضافة اعلان
كما تَواصل تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين والمؤسسات والشركات دون انقطاع، وتزويد الأفراد والأسواق بالمستلزمات الأساسية للعيش.
وأظهرت الدولة قدره عالية جداً في المراحل الأولى لانتشار الجائحة، إلى درجة أنها سجلت أفضل المؤشرات إقليمياً ودولياً في احتواء الفيروس.
وفوق ذلك كله؛ أظهر الشعب الأردني بكل فئاته، درجة عالية من التكاتف والتضامن من أجل الصالح العام، وتجلى ذلك في أبهى صورة، بقبول الجميع من القطاعات المدنية والعسكرية وقف العلاوات والبدلات لأشهر طويلة لأجل الصالح العام، دون أن يؤدي ذلك لأي مظهر من مظاهر الاختلال الأمني أو الاجتماعي.
كما لم يقع أي شكل من أشكال الرعب المالي، بل على العكس، زادت موجودات البنوك ولعب البنك المركزي دوراً مميزاً في دعم الشركات والقطاعات الأكثر تضرراً من الجائحة
وفي الوقت نفسه؛ أظهرت الجائحة نقاط ضعف في إدارة الدولة، وهذا أمر طبيعي نظراً للدرجة العالية من المباغتة للفيروس التي واجهت الدولة كسائر دول العالم، قويها وضعيفها، غنيها وفقيرها، ومنها ضعف البيانات المتوافرة، وعدم ملاءمة بعضها لعمليات صناعة القرارات السريعة لإدارة الأزمات، اضافة الى ضعف تحليلها بطريقة تدعم اتخاذ القرار، ما استدعى أحيانا اللجوء الى التجربة والخطأ، وتعديل المسارات بشكل متكرر، وانطبق ذلك بشكل واضح في القطاعات الأكثر حساسية، كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقل والتزويد.
كما شكل عدم وجود خطط واضحة لإدارة المخاطر المؤسسية، ودور أجهزة مؤسسات الدولة فيها، وهذه تحديداً نقطه ضعف أخرى، وشكل ضعف البنية الالكترونية وعدم جاهزيتها بدرجة كافية لإدامة العمل عن بعد، وعدم وجود أدلة واضحة لهذا النوع من العمل تحدياً واضحاً، إلا أنه تم التمكن من معالجة هذا الأمر بدرجة مقبولة وبزمن قياسي، لكن ذلك يجب ألا يخدعنا، لأننا بحاجة ماسة لتطوير هذا الجانب من عمل الإدارة الأردنية بشكل أكثر فاعلية واستدامة، بخاصة أن التقارير الدولية أظهرت مؤخراً تراجع الأردن بشكل مقلق.
كما أدت سياسات الإسراع والتساهل في فتح القطاعات والمعابر، بالتزامن مع ضعف الإمكانات الى اللجوء لمقاربة شاملة في مواجهة الجائحة، وإلى تفاقم حالات الإصابة وتراجع المكتسبات التي تحققت سابقاً.
إن الحكمة تقتضي الآن، أن توجه السياسات العامة أكثر من أي وقت مضى، إلى تحويل التحديات التي واجهتها الدولة لفرص جديده للمستقبل، لذا يجب البناء على نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف، وتحويلها لصالح خدمة الدولة والمجتمع.
إن الجائحة ستزول وتذهب يوماً ما، وإذا لم نتعلم من الدروس التي خلفتها وعاد العمل كالمعتاد، فتلك ستكون بمنزلة نكسة كبرى للإدارة الأردنية.
إن هناك ستة إصلاحات ضرورية برأيي يجب البدء بإجرائها دون تأخير:

  1. بقيت مؤسسات وأجهزة الدولة تعمل لسنوات طويلة بشكل منعزل عن بعضها إلى حد بعيد، وبتنسيق ضعيف فيما بينها ومع القطاع الخاص والمدني، إلا أن اللجان التنسيقية القطاعية التي شكلتها الحكومة لمواجهة الجائحة في بداية الأزمة، أدت أدواراً مهمة في تحسين وتطوير ملاءمة السياسات والتكامل التشغيلي، وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع، مما يعني، بل يحتم إجراء إصلاحات عميقة وجذرية في الحوكمة والإدارة العامة وطريقة اشتغال الدولة، ليس لمواجهة أي كوارث في المستقبل حسب، بل لتحسين وتجويد وزيادة فاعلية الحكومة على المدى البعيد.
  2. أظهرت الجائحة أن هناك حاجة ملحّة للعمل القطاعي المشترك والمنسق، كما أظهرت أن هناك مؤسسات في الدولة ذات حيوية وأهمية بالغة يجب تقويتها ودعمها، وبالمقدار نفسه؛ بدا واضحاً أن بعض المؤسسات والدوائر، شكلت عبئاً زائداً على الإدارة الأردنية، وأن عملها يتقاطع بشكل واضح مع دوائر ومؤسسات أخرى، وبدا واضحاً كذلك أن عصب الدولة يقوم على أكتاف عدد محدود من الموظفيين الفاعلين والمنتمين وذوي الكفاءات العالية، لذا لا بد أن يكون ذلك دافعاً لإجراء إصلاح عميق للقطاع العام، وإعادة الهيكلة الحقيقية وزيادة كفاءة وفاعلية أجهزة الدولة.
    إن إصلاح القطاع العام، لم يعد ترفاً فكرياً بل حاجة ملحة، لذا يجب أن يحكمة إطار قانوني وإجراءات قوية ومستدامة، لا تتغير بتغير الحكومات والمسؤولين، ولا بد من توافر نظام حوكمة ثابت وموحد ومنسق للمؤسسات والدوائر التي يتكامل عملها معا، كالدوئر المعنية بالصحة والتعليم والتدريب والخدمات الاجتماعية والاسثتمار.
  3. ظهر جلياً من التعامل مع الجائحة، وجود حاجة أساسية لخفض النفقات وإعاده توجيهها للخدمات الحيوية، بالتماشي مع إصلاح القطاع العام وإعادة الهيكلة، ليس ذلك حسب، بل أصبح من الضروري زيادة فاعلية الإنفاق وملاءمة التخصيصات المالية. فالغذاء والدواء والتعليم ورعاية الضعفاء والأكثر عرضة للخطر، أولويات لا يمكن إغفالها، لا في أوقات الشدة ولا في أوقات الرخاء، لذا فإن أي مبلغ ينفق عليها؛ استثمار في المستقبل وليس نفقة غير مستردة.
    إن الجائحة؛ يجب أن تشكل حافزاً إضافياً للحد من التكاليف التي لا لزوم لها، وخفض النفقات وزيادة كفاءتها.
  4. من الواضح أن التعليم والعمل الهجين الذي يمزج الوجاهي و"عن بعد"، سيكون النمط السائد في المستقبل، عليه فإن الحاجة للحكومة الالكترونية وتطوير آليات وإجراءات العمل والتعلم عن بعد، هي حاجة ملحّة لزيادة فاعلية العمل وتحسين كفاءة استخدام المال العام وتوفير النفقات، وبالتالي يجب النظر إلى موضوع الحكومة الألكترونية لا كخيار تفاخري، بل كحاجة ملحة لإصلاح القطاع العام وتطوير حوكمة وإدارة مؤسسات الدولة.
  5. فاقمت الجائحة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالفقر والبطالة، وبخاصة بعد أن أدت لانضمام فئات جديدة إلى قائمة الفقراء والمتعطلين عن العمل التي كانت مقلقة أصلاً، ويستدعي هذا الأمر؛ مقاربة مختلفة للتعامل مع هذه الآثار.
    عليه؛ فإن على الدولة تسخير أفضل العقول الاقتصادية والاجتماعية لوضع الحلول المناسبة، خشية أن يمهد هذا الأمر لتجذر حالة الإحباط وفقدان الأمل، اللذين يمهدان لمختلف أشكال التوتر والاضطراب التي سادت قبل عقد من الزمان.
  6. تشير الدلائل المتوافرة الى أن أثر الجائحة المباشر سيبقى معنا لفترة أطول مما توقعنا، وأن أثرها غير المباشر قد يمتد لأعوام طويلة، لذا فإن التعافي الكامل الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، سيأخذ وقتاً طويلاً، وعقل الدولة سيحتاج لمزيد من الحكمة والإرادة والشجاعة والسياسات العامة الملائمة، والإصلاحات المؤسسية الجريئة، لاحتواء هذه الآثار على المدى القصير، والتعافي منها على المدى المتوسط والطويل، وفوق ذلك كله؛ ثمة حاجة لثقافة جديدة في الإدارة والحكم والتعامل مع الشأن العام.
    *وزير سابق