إعادة التموضع: قراءة في تعاظم الدور التركي في الشرق الأوسط

 

فيما العرب غائبون ومهمشون إلى درجة العجز عن القيام بأي دور استراتيجي في منطقة هي أصلاً منطقتهم، ويفترض بها أن تكون المسرح الأساسي لكل تحركاتهم السياسية، ومجال نفوذ حيوي يسمح لهم بحرية الحركة والمناورة، تتولى قوى إقليمية ودولية أخرى القيام بهذه المهمة، وهي التي تشكل التفاعلات وترسم الخريطة السياسية في المنطقة العربية، وتفرض الحلول والتسويات على أهلها.

اضافة اعلان

بالأمس القريب كنا نتابع -في مشهد لا يتكرر كثيراً في التاريخ- كيف أن دولتين غير عربيتين (أميركا وإيران) تجلسان على طاولة مباحثات واحدة، وبند النقاش الأول على الطاولة هو تقرير مصير ومستقبل بلد عربي اسمه العراق، والآن ها هي تركيا، القوة الإقليمية الأخرى المجاورة للعرب، تدخل بقوة إلى دهاليز الأزمات الشرق أوسطية، وذلك في محاولة لاستعادة دور تخلت عنه كرهاً أو طواعية منذ أكثر من ثمانية عقود مضت.

تركيا في الوقت الراهن تعمل على ملء ما تبقى من فراغ قوة استراتيجي خلفته استقالة العرب الجماعية من تأدية واجبهم وحقهم الطبيعي في ممارسة دور سياسي، إيجابي وبناء، يُراعي بالدرجة الأولى مصالحهم، وينصرف فيما بعد إلى تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة ككل.

إعادة التموضع

بفعل الأحداث والتطورات السياسية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وفي إطار الحرب على ما يسمى بالإرهاب، وما نتج عنها من تغير حاد في مشهد التفاعلات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وجدت الحكومة التركية الجديدة -التي تشكلت في عام 2002 بقيادة حزب العدالة والتنمية- نفسها أمام تحديات حقيقية، وأمام اختبار حقيقي لموقعها ودورها في المنطقة، خصوصاً أن احتلال العراق من قبل أميركا خلق واقعاً جديداً على حدودها الجنوبية الشرقية، متمثلاً في إحياء حلم وتطلعات الأكراد بإقامة دولة كردية شمال العراق، وما يترتب على ذلك من خطورة بالنسبة لتنامي النزعة الانفصالية لأكراد تركيا. ومن هذا المنطلق، حرصت تركيا على توطيد علاقتها بكل من سورية وإيران اللتين تشاطرانها الموقف المعارض لقيام دولة كردية مستقلة في المنطقة. وحيال ما تقدم، بدا وكأن تركيا في ظل حكومة ذات توجه إسلامي تنتهز الفرصة لتعيد رسم وصياغة توجهات السياسة الخارجية، بل أكثر من ذلك تعيد تموضعها الجغرافي والسياسي باتجاه ما يمكن تسميته بعمقها الحضاري والتاريخي في الشرق الأوسط.

إن تركيا في المرحلة الراهنة تصوغ سياسة خارجية تختلف كلياً عن السياسة التقليدية التي مارستها سابقاً، فتركيا بزعامة التيار الإسلامي تبدو فاعلة دبلوماسياً واستراتيجياً عبر التحول الناشط لإعادة التمركز بعد تراجع دورها كقاعدة غربية متقدمة في الحرب الباردة في مواجهة المعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي آنذاك. ومن الواضح أن تركيا اليوم ترمي بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي لممارسة ولعب دور قوي ومؤثر في الشرق الأوسط، وتقديم نموذج لمشروع دولة إسلامية مدنية حديثة يمكن الاقتداء بها في المنطقة.

موجبات التحول

تدرك تركيا تمام الإدراك أنه كلما زاد تأثيرها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط التي تعد بؤرة ساخنة للصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية، عززت مكانتها في النظام العالمي الجديد طور التَّشكُل. في السنوات القليلة الماضية، ورغم الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي أجرتها حكومة رجب طيب أردوغان مسايرة للشروط الأوروبية من أجل الانتساب لعضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أن أوروبا بدت وكأنها تماطل تركيا في المفاوضات التي من شأنها أن تعطي تركيا -في نهاية المطاف- بطاقة انتساب كاملة لهذا التجمع الأوروبي الضخم. ومما عزز شعور الأتراك بعدم رغبة الأوروبيين في انضمامهم، وأصابهم بالإحباط واليأس هو قبول أعضاء جدد من دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي، واستمرار التعنت تجاه الطلب التركي القديم.

والحال أن مماطلة أوروبا لتركيا في مسألة الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي جعلت القادة الأتراك يفقدون شيئاً فشيئاً الأمل في الدخول إلى النادي الأوروبي، ولكنها في الوقت نفسه دفعت تركيا إلى الاعتماد على ذاتها ومواردها الخاصة بدرجة أكبر، فتركيا اليوم هي أكبر اقتصادات الشرق الأوسط، وهي الدولة رقم 17 في العالم من حيث كبر حجم الاقتصاد. فضلاً عن ذلك، تحاول تركيا عبر تزايد انغماسها في أزمات المنطقة وقضاياها أن توصل رسالة إلى الأوروبيين والأميركيين على حد سواء، أنها قادرة على ممارسة دور سياسي واقتصادي قوي ومستقل في المنطقة. وبالتالي فعلى الغرب أن يعلم أنه لا يمكن استبعاد تركيا من أي معادلة أو تسوية تخص الشرق الأوسط، فتركيا إن لم تكن قادرة وحدها على تكريس ورسم تفاعلات سياسية من نوعٍ جديدٍ في المنطقة، فإنها على الأقل قادرة على عرقلة أي ترتيبات أو مشاريع غربية خاصة في الشرق الأوسط تتم بمعزل عنها.

ملء الفراغ

ثمة عامل آخر يدفع تركيا إلى التحرك صوب الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديداً وهو محاولة ملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة الذي أشرنا إليه آنفاً، فالمتغيرات الإقليمية الراهنة التي يعيشها النظام العربي الرسمي من انقسام حاد في المواقف والرؤى، وهشاشة التحالفات العربية-العربية، وانكشاف النظام الرسمي العربي أمام التدخلات الخارجية، وعجزه عن التعامل بحيادية مع الأزمات الداخلية خصوصا مع الأزمة الفلسطينية، كل ذلك أعطى تركيا، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف العربية وأيضا مع إسرائيل وأميركا، دفعة قوية للتغلغل في الشرق الأوسط والانغماس في قضاياه المصيرية، ورسم استراتيجية مختلفة تجاه العالم العربي على خلاف سياساتها القديمة أثناء الحرب الباردة، وذلك من خلال مد الجسور مع العالم العربي ومحاولة تقريب وجهات النظر بين الأطراف الإقليمية المتنازعة. وفي هذا الإطار، سعت تركيا مؤخراً إلى إحياء مفاوضات السلام بين سورية وإسرائيل، كما حاولت ردم هوة الخلاف المحتدم على الساحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، وهي تقف الآن على حياد كامل فيما يخص الانقسام العربي وسياسة المحاور التي تزداد اتساعاً مع مرور الوقت.

إذن، من الواضح أن تركيا تمارس دورها كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، ولديها مصالح سياسية واقتصادية واسعة تريد تحقيقها ومن ثمّ الحفاظ عليها، وذلك من خلال نسج شبكة من العلاقات والتحالفات الدولية والإقليمية. وعلى هذا الأساس، يجب النظر إلى تركيا التي تعيد رسم توجهاتها الخارجية، وترسيخ نفوذها في المنطقة لا من خلال كونها عضواً في محاور وأحلاف مع دول أخرى فقط، ولكن من خلال تعزيز موقعها كقطبٍ إقليمي مستقل ومؤثر، ويحتفظ لنفسه بمسافة واحدة من الجميع وفي الوقت نفسه يتواصل مع الجميع.

والحقيقة أن مواقف تركيا الأخيرة إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإيقافها جهود الوساطة بين سورية وإسرائيل إلى أجلٍ غير مُسمّى، كلها أمور تؤكد أن تركيا دولة ذات سيادة تحترم نفسها، وهي بهذه المواقف القوية تعطي دروساً سياسية ودبلوماسية للنظم العربية في كيفية إدارة علاقاتها وتحالفاتها مع الغرب. فعلاقات تركيا القوية بإسرائيل وعضويتها في حلف الناتو الغربي لم يمنعاها من اتخاذ مواقف مغايرة عن الأطراف التي تتحالف معها. إن تركيا تستمد قوتها اليوم من قدراتها الذاتية ومن الشرعية الشعبية لحكومتها التي وصلت إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وذلك على العكس مما يجري في منطقتنا العربية، وهي بذلك تصنع لها مكاناً وموقعاً متميزاً في الشرق الأوسط دفع العرب المأزومين داخلياً إلى الاستعانة بها، ومحاولة تصدير أزماتهم الداخلية إليها، لكي تساهم في حلّها بعد أن عجزوا مجتمعين عن ذلك.

خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع مشروع منبر الحرية:

www.minbaralhurriyya.org