إعادة تعريف الإسلام

عندما يقترح أحد ضرورة إعادة تعريف الإسلام وفتح نقاش صريح حول ماهيته وأدواره في هذه الظروف، يحتج المعظم بدعوى أن الدين واضح لا لُبس فيه، ويحرّمون أي مراجعة باعتبارها محرماً. لكن كل شيء وكل حدث في هذه الفوضى يناقض فكرة الوضوح، ويبين أن المفاهيم عن الإسلام كثيرة بعدد الجهات التي تتصارع تحت اليافطات الدينية والطائفية، وتدّعي كل منها امتلاك تعريف الإسلام الصحيح، بينما الآخرون ضالون.اضافة اعلان
في البداية، تغير تصنيف التناقض العالمي كله، وأصبح عنوانه "صراع الحضارات" بين الغرب "الديمقراطي" والإسلام "الإرهابي". ثم تحول كل ما بدأ في المنطقة العربية كانتفاضات محلية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، إلى صراع ديني في مظاهره وشعاراته. ومع أن الصراع الدائر هنا لا يمكن أن يكون إلا على السلطة الدنيوية، فقد أمكن إلباسه رداء اللاهوت بسهولة؛ باللعب على الفكرة الرائجة القائلة بأن أزمتنا كلها روحية، وناجمة عن علاقتنا بالدين.
تسنى ذلك للجهات الانتهازية الراسخة، لأنه تم الزج بالدّين في مجتمعاتنا في كل شيء، بحيث أصبح عاملاً صالحاً للتجييش، ونقطة توتر يمكن الاستقطاب على أساسها. وساعد على ذلك أن السياسات والتكوينات الاجتماعية التي حكمت مناطق المسلمين في العصر الحديث، جهدت في استبعاد أي بديل يعرض اقتراحات علمية ومخططات دنيوية، ويدعو إلى مزيد من العناية بإمبريقية الخبرة وإعمال الفكر النقدي؛ ولأن التكوينات الاستبدادية والفكر الديني أبقيا نفسيهما في منآى عن منطقة النقاش، مما غطى على توتراتهما التي انفجرت في وجه أول محاولة للتغيير، وبطرق لا تفصح عن أي مرونة أو قابلية للتصالح.
ينظر المراقبون المتعاطفون من الخارج إلى المعركة الدموية في بلادنا على أنها محاولة المنطقة إعادة اكتشاف هويتها، وعلى رأس ذلك إعادة تعريف الإسلام. وفي كل مرة جرى الحديث فيها عن التطرف الذي يدمر المنطقة، حاول هؤلاء المتعاطفون التمييز بين الإسلام والأيديولوجيات القاتلة التي تعمل باسمه، لكنهم أكدوا دائماً على ضرورة الاعتراف بأن مرتكزات هذه الأيديولوجيات يمكن العثور عليها في الإسلام، إلا أن المشكلة تكمن في التجاء دعاة التطرف إلى انتقاء نصوص أو أحداث مخصوصة في الخبرة الإسلامية، والتي تبرر العنف ورفض الآخر. ويستشهد المتعاطفون بالاتجاه السائد من المسلمين السلميين الذين استرشدوا بمبادئ التسامح وأهمية العمل الدنيوي والتعايش التي أكدها الإسلام أيضاً. وفي النهاية، يبدو أن المعركة تدور الآن بين هاتين الرؤيتين: أيهما هي الإسلام؟
ولكن، حين يحاول بعض المتنورين، حتى من ذوي الميول الدينية الواضحة، اقتراح أفكار تنتمي إلى منطقة التيسير والود والرحابة، فإنهم يتعرضون مباشرة لهجوم شرس من عقل عام متآمر على نفسه، يرى في أي اقتراح للإصلاح الديني تجديفا واجتراء على الإفتاء لمن لا يحق له الإفتاء. وفي المقابل، يحتل أصحاب الرؤى الإقصائية كل الميدان وهم يفرضون رؤيتهم على الجميع بقوة السلاح، مؤيدين بالجمهور نفسه المعادي للاستنطاق، ولأي مراجعة. وهذا ليس حواراً ولن يحل شيئاً، وإنما يعقد كل شيء كما يحدث الآن. ومع كل الشكوك التي تساور المسلمين العاديين إزاء التدين المتطرف، بحيث لم يعد من المستغرب خوف المرء على أولاده من ارتياد المساجد أو إطلاق اللحى أو الاختلاط بالمتدينين، فإنهم مع ذلك لا يشجعون فتح الحوار على ما هم مغلقون عليه.
لمزيد من التعقيد، تتخذ السلطات السياسية المهددة التي تزعم العلمانية، الموقف نفسه المتناقض من تعريف الدين ووظيفته. ففي حين تعاني من التطرف واستيلاء الدين على مساحة السياسة، تعود فتصطف إلى جانب المتصلبين عندما تثار قضية إعادة النظر في أدوات الثقافة والمناهج التعليمية وتشجيع التعددية، باعتبار المراجعة اجتراء على المقدس. وبذلك، تستمر مزية الاتجاه الأصولي الذي عمل وازدهر في غياب الأصوات المعتدلة التي تدعو إلى مراجعة ماهيتنا العقائدية من باب الحب، والحرص على تعايش أهل هذه المنطقة مع العالم المتعدد المعقد.
بعد أن فُرض عنوان الدين السياسي على الفصل الدموي الذي نعيشه الآن، أصبح من باب الضرورة الوجودية فتح الحوار المقموع حول إعادة تعريف الإسلام: ماهيته وأدواره وتأويلاته، وبحيث يوضع أصحاب الرؤى العنيفة التي ترهبنا وتخرب بيوتنا قبل غيرنا، والانتهازيون الساعون إلى السلطة باسم الدين وبأي كلفة، في الزاوية الضيقة التي يستحقون.