إعلام بلا بوصلة!

على امتداد عقود، راقبنا جهات كثيرة؛ رسمية وشعبية ومتمولة، تمنح جوائز عديدة الشكل والوزن والاختصاص في الصحافة والإعلام، وتنظم ورشات عمل "جادة" لإكساب العاملين في الحقل الإعلامي مهارات جديدة للعمل.اضافة اعلان
بالنسبة للجوائز، فهي مكافآت مالية، وتقدير اعتباري، ولا تعني أي شيء آخر. فهي لن تستطيع أن تبنى أنموذجا حقيقيا عن الشكل الصحافي الذي فاز به صاحب أحدهم، إن كان فعلا يستحق الفوز. كما إنها لن تستطيع أن تكون عادلة. هذا أمر يتحدد بالسقوف المنخفضة المفروضة على معظم الكتابة الصحافية في الأردن، خصوصا مع قائمة طويلة جدا من المحذورات التي ينبغي عدم الاقتراب منها أبدا، وقائمة أخرى بأمور ينبغي أن نظل مهللين لها!
سوف يتاح لنا دائما أن ننتقد إنجازات وزارة التربية والتعليم. سوف نشدد اللهجة ضد وزارة التعليم العالي، أو الزراعة والإدارة المحلية والبلديات الكثيرة. لكن، وفي محاولاتنا العديدة لتشكيل رؤية كلية حول الفساد ومنابعه الراسخة، سوف نراجع أنفسنا ألف مرة قبل أن نخط كلمة واحدة تجاه كثير من القضايا، وبعضها يشغل الرأي العام.
في المقابل، هناك ورش عمل كثيرة، وجوائز، يحاول منظموها ملء استمارات كثيرة عن الأعداد المستفيدة منها، من أجل إيراد "إنجازاتهم" العظيمة، وبالتالي استحقاق التمويل. كل ذلك لم يشكل أي اختراق حقيقي في المشهد المحلي البائس المحكوم بمئات الخطوط الحمراء التي نغمض عيوننا عن وجودها.
في الصحافة والإعلام، بتنا غير قادرين على أن نجعل المهنة رسالة فقد تخلينا عن هذا الجزء، وقنعنا بأن تكون مجرد وظيفة، وهي أيضا وظيفة "مغرضنة" متى ما أردنا ذلك.
لننظر إلى الأمر بعمق أكثر: هل يمكن لساحة تمتلك هذا العدد الكبير من وسائل الإعلام، وكتاب المقالات، والبرامج الحوارية، ومنظمات المجتمع المدني العاملة على تعزيز الحريات ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين الفئات المستضعفة، وغيرها الكثير، أن تقف عاجزة عن الحفر عميقا في الأسباب الحقيقية التي تحد من الحرية في تناول الملفات الحيوية والتنوير بها؟!!
ما الذي تفعله آلاف ورش العمل والتدريبات والمحاضرات والندوات، سنويا، حول الحريات وحقوق الإنسان والتمكين، إن لم تستطع أن تفتح كوة في جدار الصمت حول أمور اتخذناها مسلمات لا تقبل القسمة، بينما هي أساس التخلف الذي يضعنا في مرتبة دونية من العالم.
في النهاية، نحن لا نريد جوائز شكلية تعلي من تخلفنا، ولا نريد ورش عمل وتدريبات من مؤسسات مجتمعية مرهونة للقرار الرسمي أو اشتراطات التمويل. فعلا، تقنا دائما لإجراءات تستوعب حالتنا التي نحب دائما أن نقول إنها خاصة، وأن تستلهم حلولا حقيقية للعثرات المزمنة التي لازمت العمل الإعلامي في الأردن، خصوصا الهيمنة عليه، حتى لم يعد المواطن مؤمنا بأي تأثير حقيقي له في الحياة العامة، فاختط بديلا له في ساحة التواصل الاجتماعي، وغدت كثير من المؤسسات غير قادرة على إدامة دفع الكلف التشغيلية، وبالتالي مهددة بالغياب عن الساحة.
نعم، نريد من المؤسسات المختلفة أن تكف عن منح الإعلام والإعلاميين أي جوائز مستقبلا، فهم يتماهون مع الحالة الراهنة، وسوف يقنعون بأنهم يقومون بكل ما هو مطلوب منهم، وسط وضع محلي يحتاج إلى جهد وطني حقيقي لتجاوزه.
لننظر إلى تقرير ديوان المحاسبة وعشرات القضايا التي أثارها، وسوف نستغرب من أن الإعلام لم يستطع الوصول إلى قضية واحدة فيه، أو أن الإعلام وصل إلى بعضها لكنه لم يمتلك الجرأة الكافية لإثارتها. وبالتأكيد كلتا الحالتين مصيبة كبرى!
ينبغي أن نتساءل حقا عن المغزى الحقيقي لكل الجوائز وورش العمل والتدريبات المكلفة، إن لم يكن تمكينا حقيقيا لعمل الصحفي في قطاعه، ومن ضمن هذا التمكين، كف يد التدخلات في عمله، وأيضا الضغط لأن تكون لديه بيئة قانونية وتشريعية تحميه من التغول عليه!
هل ثمة هدف آخر يمكن أن يكون مهما سوى هذا؟!
منذ عقود ونحن ما نزال ندور في حلقات مفرغة بالنسبة للحريات الإعلامية. أحيانا نتلهى بالمساحة المسموحة لنا، ونعتبر ذلك إنجازا كبيرا، لكن في كل الأحيان نسير "تحت" الحبل الممدود لمسيرنا. هذا أمر منهك.
بيئة العمل الإعلامي واشتراطاته تحتاج إلى مراجعة حقيقية من الجهات الناظمة والمنخرطة، وصولا إلى تشريعات تحمي العاملين في القطاع، وتوفر لهم سندا قانونيا يتيح ممارسة دورهم في التنوير والكشف والرقابة. من دون ذلك، سوف نظل نتلهى بالقشور!