إفساد مكافحة الفساد

برز خلال الأيام القليلة الماضية خطاب سياسي وإعلامي مباشر وغير مباشر، ربما مقصود أو غير مقصود، هدف إلى كبح جماح موجة مكافحة الفساد المتصاعدة، أو على أقل تقدير دعا بشكل صريح إلى فرملة أو إبطاء تصعيد هذه الموجة، أو التريث في فتح بعض الملفات، أو الحد من تعدد الجهات التي تتدخل في هذه الملفات. قد تكون بعض المقولات التي تأتي في هذا السياق مقبولة إلى حد ما، ولكن فكرة إبطاء هذا المسار وضرب هذه الموجة لن تكون أبدا إلا فسادا آخر، ومحاولة لحرمان الدولة الأردنية من فرصة تاريخية لاستعادة أنفاسها والاستمرار على قيد الحياة.اضافة اعلان
يقوم هذا الخطاب على عدة أطروحات أساسية، أهمها: أولا، أن فتح باب كشف الفساد على مصراعيه ضار بالاستثمار والاقتصاد الذي يعاني من مشاكل وخيمة، بل القول إن ذلك سيهرّب المزيد من الاستثمارت. ويعيد دعاة هذا الخطاب تراجع حركة الاستثمارات الإقليمية التي شهدتها المملكة في أجواء حالة عدم الاستقرار الإقليمي إلى هذه الأطروحة. ثانيا، أن تصاعد هذه الموجة يضرب أسس الدولة، ويظهرها دولة فاسدة تسكنها عوامل الفشل والترهل. ويدعي هذا الخطاب أن هذه الصورة تنقلنا من دولة مترهلة إلى دولة فاشلة. ثالثا، تشويه صورة المجتمع ونخبه حينما تضرب عمليات مكافحة الفساد صورة طيف واسع من هذه النخب التي يحاول بعضها في هذا الوقت الالتصاق بالمجتمع وترميز نفسه. في المقابل، نجد أن عددا وراء القضبان، وعددا آخر ذهابا وإيابا إلى المحاكم.
إلى هنا يبدو هذا الخطاب متهاويا ولا يخدم إلا توفير ملاذات جديدة للفساد، فكل الأدبيات الاقتصادية وتجارب التحول نحو الحكم الرشيد في شرق العالم وغربه لا تثبت، من قريب أو بعيد، أن إرساء قواعد صلبة للنزاهة، والتخلص من البؤر المظلمة للفساد، يخرّب الاقتصاد أو يهرب الاستثمار، باستثناء الاستثمار الذي ينمو ويزدهر في بيئات فاسدة، وعادة ما يتم ذلك على حساب المجتمع والدولة ولمصلحة فئات فاسدة، ولا نعتقد أن أحدا يريد هذا النمط من الاستثمار الوافد، بل إن أبجديات جلب الاستثمار تدل، من خلال مؤشرات تراكمية متعددة، على ارتباط جلب الاستثمار بالبيئات المعافاة من الفساد. وقد يقول قائل إن مشكلتنا في اللحظة الراهنة التي تصور أن كل شيء فاسد، وهنا قد نخسر لبعض الوقت من أجل أن نكسب كل الوقت.
الخوف على صورة الدولة ونخبها، أو الادعاء بأن عمليات التنظيف الواسعة تضرب أسس الدولة، أمر مؤسف ولا يجوز ترديده، فهل أسس الدولة قامت على الفساد؟ ومن المؤسف أيضا أن يُردد هذا الخطاب بدلا من التعبئة الإيجابية التي تقف إلى جانب مستقبل الدولة والمجتمع.
في المقابل، تبدو بعض الملفات التي يزج بها في حلبة مكافحة الفساد أحيانا وكأنها تهدف إلى خلط الأوراق، وتوفير بيئة ملائمة للمقولات السابقة، مثل الزج بملفات عمرها قارب العشرين عاما، أو رفع حجم التطلعات بشكل غير منطقي، أو بدل مراجعة أخطاء ملفات الخصخصة التلويح أو الدعوة إلى تأميم بعض الشركات. موجة مكافحة الفساد تشكل الأداة الموثوقة لاستعادة الدولة حيويتها وقدرتها على الاستمرار، واستعادة ثقة الناس، وعملية تمييعها بهذا الشكل لا تعني بكل بساطة إلا إفساد مكافحة الفساد.