إقرار الموازنة بين الشعر والغياب!

تعتبر قراءة ومناقشة الموازنة العامة، والتصويت عليها، من أكثر الجهود السياسية تعقيدا بالنسبة للبرلمانيين على مستوى العالم. فالأمر يتعلق بالأموال وحقوق المواطنين والخزينة، إضافة إلى رؤية مسار الدولة الاقتصادي لمدة عام. وفي المثال الإسرائيلي، يمكن القول إن وزارة المالية تبذل جهودا كبيرة لإعداد الموازنة العامة. وعندما تقدمها للكنيست، تتم قراءة بنودها ثلاث مرات بتفصيلات مفرطة، وتطاحن سياسي واقتصادي لا يُسمح فيه بتمرير الأمر بسهولة.اضافة اعلان
هذا ما يحدث بالقرب منا وفي العالم. أما لدينا، فإن الشكل والمضمون يشيران إلى أن مناقشة الموازنة تحت القبة ليست أمرا عسيرا؛ حتى إن كاميرات المصورين رصدت بعض الوزراء في غفوة تحت القبة، ولم لا؟ فالخطابة والكلمات الجاهزة التي أمطر النواب بها القاعة خلال أيام من مناقشة الموازنة، انتهت الى إقرار سريع للأخيرة بأغلبية 57 نائبا فقط، وغياب 47 آخرين! ليبدو أن ثلث النواب ليسوا معنيين بمناقشة الموازنة أو التصويت عليها.
دعك من الغياب؛ فمناقشة الموازنة انطوت على عجائب اعتدنا الاستماع لها في كل عام، ولا علاقة لها برسم مسار اقتصادي جديد لبلادنا. فثمة من يتحدث عن الوضع الاقتصادي بلغة الشعر، وآخر بالمترادفات، وثالث يطالب بعرض الموازنة على دول الخليج طلبا للمساعدة. فيما تساءل آخرون عن "ثورية" الموازنة، ووصفها البعض بأنها عاقر، وانبرى بعض آخر للإغراق في توصيف شكلها؛ وسط غياب كامل للأفكار والخطط والبرامج في مواجهة ما قدمته الحكومة في مشروع موازنتها.
حتما ستغيب البرامج البديلة لما تطرحه الحكومة من خطط للإنفاق؛ فالبرلمان لا يضم قوى حزبية أو سياسية ذات مرجعية برامجية، والحديث فيه فردي وغير واضح، لا يخضع لمعيارية اقتصادية أو برامجية. ولذلك، تبدو مناقشة الموازنة هزيلة، ولا تعبر عن حقيقة ما تحتاجه البلاد من رقابة اقتصادية مفترضة من طرف الجهة المعنية بالتشريع والرقابة. فلا "مناقشة الموازنة" كشفت لنا أين تقف الدولة مما يسمى "الإصلاح المالي والاقتصادي"، ولا إجابات مقنعة قدمت بشأن القرارات التي تتخذها الحكومة وتسعى إلى إلغاء الدعم عن سلع وخدمات، توفر من خلالها أموالا للخزينة بينما تزيد النفقات في المقابل.
الحكومة ليست أفضل حالا هنا. فمناقشة الموازنة اختصرت من جانب رئيس الوزراء، د. عبدالله النسور، في كلمات: "اليوم وأنا أقف أمامكم، يوجد في الخزينة 12 مليار دينار. اليوم، الدينار أقوى، والإيرادات أكثر، والنفقات أقل". وبذلك، فإن قوة الدينار أولوية بالنسبة للحكومة، حتى لو ارتفع عجز الموازنة إلى 1.1 مليار دينار، وبنسبة 28 % قبل المنح والمساعدات، إضافة إلى صعود المديونية إلى أكثر من 21 مليار دينار، وبما نسبته 82 % من الناتج المحلي الإجمالي. وفي تقديري أن رقمي العجز والمديونية يجب أن يكونا الأولوية في كل الإجراءات والقرارات التي تتخذها الحكومة؛ فما معنى أن تحافظ الحكومة على سلامة الدينار، في موازاة مديونية ثقيلة تنخر في العظم الاقتصادي؟
إقرار مجلس النواب للموازنة العامة بالشكل الذي جاءت عليه، وموافقته على توصيات لجنته المالية، بما فيها إصدار قانون العجز وتحصيل الأموال الأميرية والبت في قضايا مالية بقيمة مليار دينار، إضافة إلى الحد من تهرب ضريبي مزمن؛ لا تحمل أي جديد. فالخطابة والنثر والشعر، وكذلك الغياب، تعني أننا سنبقى ندور في فلك سياسات مالية واقتصادية غير إصلاحية، وأن العجز سيستمر ويتعمق، وكذلك المديونية.

[email protected]

hassan_shobaki@