موفق ملكاوي
بسبب انشغالي بمشروع كتابي وتدريبي جديد، راجعت ترجمات إلى العربية لمجموعة من الروايات العالمية المهمة، والتي انتشرت بشكل كبير لدى القراء العرب، وكثير منها أثر في بنية الكتابة العربية وتوجهاتها وأسلوبيتها.
من بين تلك الروايات “الشيخ والبحر”، للكاتب الأميركي إرنست همنغواي. وقد طالعت أكثر من خمس ترجمات مختلفة للرواية التي تمت ترجمتها بعنوانين مختلفين بعض الشيء: “الشيخ والبحر” و”العجوز والبحر”، وثمة فارق كبير بين مفردتي “عجوز” و”شيخ” كما أفرد ذلك علي القاسمي في تقديمه لترجمته للرواية.
باستثناء القاسمي، وسمير عزت نصار، جاءت ترجمات الرواية مخيبة للآمال، وبشكل لا يمكن تعويضه، فالنقل إلى العربية في كثير منها كان “إحيائيا” بطريقة كما لو أن اللغة العربية لم تتطور عبر قرون عديدة، وبعضها استند إلى لغة تراثية تسربت إليها كثير من المفردات والتعابير الدينية، ما أدى إلى قتل الربط الجمالي الذي أراده المؤلف في الأصل.
صحيح أن همنغواي كتب روايته بلغة بسيطة في الأصل، محاولا أن تكون أشبه بـ”حكاية” مسرودة لا مكتوبة، وربما أراد أن يؤسس لمفهوم “الحكي” الذي يتقاطع في جوانب عديدة منه بالقصة وأساسياتها وعناصرها، وما تشتمل عليه الحبكة فيهما. لكن هذا البناء “الدرامي” عند همنغواي لم يظهر بالشكل المطلوب لدى عدد من الترجمات التي طالعتها مؤخرا.
اللغة المستخدمة في الترجمة قتلت التشويق، فبدت كما لو أن السرد ثابت في مستوى واحد هو “الإخبار”، بينما أدى استخدام مفردات بعينها دون أخرى إلى نقل الترجمة إلى مستوى الكتب التراثية، أو على الأقل جزء من تلك الترجمة.
طالعت إحدى النسخ الإنجليزية الأصلية، وقد وجدت أن التعبيرات التي جاء بها همنغواي، وعلى بساطتها، إلا أنها ترسم صورا بديعة، ويمكن نقلها إلى العربية بجمالية عالية، من دون أن نؤدي إلى نقل النص الأصلي لسياقات أخرى.
في الرواية الأصلية، يتكئ السارد على سانتياغو كشخصية أساسية في العمل protagonist، لكنه لا يغفل أن يطور شخصيات أخرى غريمة antagonist، كالسمكة العملاقة، والبحر، والشمس.
هذه الشخصيات المعنوية غاب فعلها الأساسي عن الترجمات، أو أنه لم يظهر بوضوح كامل، وتم التعامل معها على أنها أشبه بخلفية للقصة، مع أن الصراع في الرواية تأسس على مواجهة البطل مع تلك العناصر، وهي التي صنعت التوتر، وقادت الأحداث نحو الذروة.
“خيانة النص جزء من مهام ترجمة الأدب”، كما يقال دائما، لكننا في ترجمات “الشيخ والبحر” وجدنا الخيانة معكوسة، فقد تمت من خلال عدم القدرة على عكس الإبداع الموجود فيها، فجاءت الترجمات بوهج أقل بكثير مما هو متوقع منها.
ترى، لو راجعنا ترجمات عربية لأعمال أدبية أخرى، خصوصا الكلاسيكية منها، فكم سنجد مثل هذه “الورطات”، حين يتصدى غير المختصين ويتنطحون لترجمة الأعمال الأدبية، والتي تعتبر من أصعب أنواع الترجمة على الإطلاق، خصوصا أن المترجم حينها لا يقوم بنقل نص ميت، بل يتصدى للغوص في ثقافة أخرى كاملة، عليه أن يعي فيها المعاني وما خلفها، أو كما يقولون في علم النقد “الإيماءات”، والتي غالبا لا يتم أخذها بالمعني الحرفي لها.
لنقم ببعض المراجعات، لعلنا نكتشف خطأ ما أشرت إليه هنا، وأن المعضلة كانت في ترجمة رواية واحدة، فحسب!
المقال السابق للكاتب
للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا