إنه تعليم مبني للمجهول

تعتبر المدرسة –كما نعرفها اليوم- أحد أعظم الاختراعات البشرية في التاريخ. وقد جاءت نتيجة للثورة الصناعية في الغرب، لتلبية حاجاتها وحاجات المجتمع الجديد. ونقلت بقية بلدان العالم هذا الاختراع قبل نشوء صناعة أو أي صناعة فيها، فكان هذا التفاوت بين الأصل والتقليد.اضافة اعلان
الاختراع الثاني الكبير والمثير هو الانترنت أو الشبكة العنكبوتية التي نجم عنها ما يسمى بوسائل، أو منابر، أو منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك الهاتف الخلوي الذكي المدهش. والمصطلح عن بعد (TELE) هو الجامع المشترك الأعظم بينها.
ومع هذا فهل يستطيع التعليم عن بعد الحلول محل المدرسة، والتعويض عن الخبرات والمهارات والذكريات … التي يعيشها التلميذ/ة فيها، والطالب/ة في الجامعة؟ إن التعليم عن قرب هو تعليم مبني للمعلوم حيث يعرف المعلم تلاميذه ويعرفونه وتعرف المعلمة تلميذاتها ويعرفنها. أما التعليم عن بعد فهو تعليم مبني للمجهول، حيث لا يعرف أحد فيه أحدا أو واحدة أخرى.
قد يخرج علينا واحد يقول: نعم، يستطيع بالتعلم الافتراضي (Virtual Learning ) حيث يدخل المتعلم في برنامج التعليم وكأنه جزء منه أو من مجتمعه، ولكن هل يعوض هذا الدخول عن التفاعل الاجتماعي المباشر؟ يمكن التعرف على هذا التعلّم في أحد المولات في عمان.
ولكنني مع هذا أجازف وأدعي أنه ليس بقدرة أي تكنولوجيا التعويض عن البعد الاجتماعي الفطري في الإنسان إلا إذا ألغيت جينات هذا البعد.
يستشهد الذين يدعون إلى الإسراع في إحلال التعليم عن بعد محل التعليم عن قرب بمساوئ هذا التعليم متصورين أنها تختفي بالتعليم عن بعد، متجاهلين المساوئ والمشكلات الجديدة التي ستنشأ، كما عاشتها كل أسرة لديها أطفال في المدرسة وفتيان وفتيات في الجامعة، إبان هجوم الكورونا.
يبقى السؤال الذي طرحته في المقال الأول عن هذا الموضوع قائما: إذا تساوت جميع جوانب التعليمين في كل شيء ما عدا القرب والبعد، فأيهما أفضل للتعليم والتعلم؟ أو أيهما يفضل الأهلون أو التلاميذ والطلبة؟ اسألوهم.
يفترض التعليم المدرسي (عن قرب) عدم تماثل أسر الأطفال، أي عدم تماثل خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية: سكنا مساحة وتجهيزا وموقعا، وتنشئة وثقافة ودخلا… وإن لهذه الخلفية تأثيرها الكبير في التحصيل وفي تكوين الشخصية، وأن مهمة المدرسة تجاوز سلبياتها بالتعاون مع الأسرة. ولكن التعليم عن بعد لا يأخذ هذه الخلفية بعين الاعتبار لأنه في النهاية آلي لا- تفاعلي (إلا إذا تم بأسلوب أو ببرنامج على شاكلة «افتح يا سمسم» لصفوف المدرسة الإلزامية أيضا).
أنا لست ضد هذا التعليم بالمطلق، فهو قديم (بالمراسلة مع جامعة لندن مثلا) وموجود على مدار الساعة الآن بالمنصات والمنابر الاجتماعية والمواقع الالكترونية، ولكنني لا أعتقد -وقد أكون مخطئا- أنه يصلح كبديل نهائي للمدرسة. إنه يصلح كشريك لها ومتضامن معها، أي كوسيلة تعلم وتعليم لا مثيل لها في التاريخ، ويجب أن يكون دمجها في المدرسة خيارا استراتيجيا لتطوير التعليم.
ولم لا تقوم وزارة التربية باستمزاج الأطفال وذويهم لتحديد المستعدين منهم لقصر تعلمهم على التعليم عن بعد. في أميركا – مثلا – توجد آلاف الأسر التي ترفض إرسال أطفالها إلى المدارس، وتعلمهم في البيوت على طول، لتجنبهم الآثار السلبية للتعليم المدرسي كما تعتقد (أيديولوجيا).
وأيا كان موقفك نقول لك: إن التعليم عن بُعد لن يحل محل المدرسة / التعليم عن قرب حتى في الدول المتقدمة، لأنه يمنع خروج الأبوين أحدهما أو كليهما إلى العمل، أو يعطل عملهما عن بُعد في البيت، فتتعطل عجلة الاقتصاد. كما أنه لن يحل محل المدرسة في البلدان النامية والمتخلفة لعجز الأبوين أحدهما أو كليهما عن إدارته في البيت.
يجب أن نفرق بين الحكومة الالكترونية والدولة الالكترونية، فنحن في الأردن نتحدث كثيرا عن الحكومة الالكترونية، وبحيث يستطيع المواطن حل مشكلاته مع الحكومة عن بعد، وإيصال المسؤول رسالته إليه عن بعد توفيرا لكلفة»، وربما قضاء على الفساد، ولكننا لا نفكر بالدولة الإلكترونية التي يلغى منها التفاعل الاجتماعي نهائيا: مدنيا وأمنيا وعسكريا، ليقضي جميع الناس حياتهم حتى الموت في البيوت. إن هذا خيال علمي قد يكون مستحيلا إلا إذا ألغيت الجينات الاجتماعية من البشر كما ذكرنا، فعندها قد تتحقق الدولة الالكترونية مع الزمن بالانتخاب الطبيعي، والتعليم عن بعد بالانتخاب الثقافي.