"إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"

أ. د. محمد خازر المجالي

في القرآن آيتان في هذا المضمون، هذه، وهي في سورة الأنبياء، وأخرى في سورة المؤمنون: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ". وعادة ما تدرج هاتان الآيتان في شأن وحدة المسلمين، وضرورة التفافهم حول منهجهم؛ فالرب واحد، والقرآن واحد، والنبي واحد، والمنهج واحد، والقبلة واحدة، ومع ذلك نرى الانقسام والتمذهب والتحزب. ولا ضير في ذلك ما دام محكوما بإطار الشرع، وبالمحبة التي ينبغي أن تكون، وباستحضار الأصول العامة؛ من أخوة بين المؤمنين، وتعظيم لحرمات المسلمين، فالاختلاف حاصل شئنا أم أبينا، ولكن ليكن اختلاف تنوع وإثراء، لا تنازع وبغضاء، يلتزم فيه المختلفون آداب الاحترام والشعور بأن كلا يكمل الآخر، بل بأن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وهكذا.اضافة اعلان
والفرق بين الآيتين واضح. ففي سورة الأنبياء جاءت من دون "واو"، وختمت بالعبادة؛ لأن السورة تتحدث عن أنبياء ودعوتهم إلى عبادة الله وحده، فالأصل العبادة الخالصة له سبحانه. بينما في سورة المؤمنون، كأن الأمر بالدعوة قد انتهى، ووصل الناس إلى مرتبة أعلى؛ فقد عبدوا الله وحده، وقادتهم هذه العبادة إلى مرحلة أعلى، وهي التقوى، فهم تلقائيا أدت بهم العبادة إلى شعور التقوى، حيث تعظيم الله وأمره وشأنه. ولعل "الواو" في أولها، وهي زيادة في المبنى، أعطت هذا المعنى زيادة، وناسبت هذه اسم المؤمنين، وتلك للأنبياء، حيث دور الأنبياء في الدعوة، وهنا في المؤمنون فهم قد آمنوا، بل استقر الإيمان في قلوبهم وملك عليهم جوارحهم.
نحتاج في هذا الزمن إلى كثير من قيم التفاهم والاحترام، وقبل أن نحترم غيرنا أن نحترم أنفسنا. ومن احترامنا لأنفسنا أن لا نخدعها، ولا نتعصب ولا تأخذنا العزة بالإثم. وجميل جدا أن يكون عندنا؛ أفراد وجماعات، هذا المنهج النقدي الذاتي، وهذه المراجعة المستمرة للوسائل، وترتيب الأولويات، واحترام آراء الغير، وتقديم قدرات الشباب، والاعتراف بالتقصير.
تعيش الجماعات الإسلامية حالة من الجمود، بل التراجع المستمر. وهذا في العموم أمر طبيعي؛ فالأيام دول، والله يداولها بين الناس. لكن لا بد من استشعار أن هذا دين الله، ومن يعمل لهذا الدين لا بد أن يتجرد للحق، ويخلص لله تعالى، ويصدق في علاقاته، مع الله ومع الناس، وأن يستشعر المسؤولية، وبالذات أنه مسؤول أمام الله تعالى عما وُكل إليه من مهام، فالمسؤولية في الإسلام تكليف وليست تشريفا.
من الجميل أن تنتقد الجماعات نفسها بمقياس الحق والمنهج الثابت في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بمقارنة واقعها مع ماض بائد، ولا مع الجماعات الأخرى، وأنني أفضل من غيري! فلا أحد يرضى بأن يكون الآخر أفضل منه، ولو سألت كل جماعة من الجماعات أهي على أفضل صورة من العمل الإسلامي؟ لكان الجواب بلا تردد أنْ: نعم. وهذا هو التعصب، وهو المصيبة التي حلت بالمسلمين، في زمن تشتتوا فيه، وانقسمت دولهم، وتغرّبت وجهتهم، وتشوهت هويتهم، ويلعب بهم عدوهم كما أحجار الشطرنج، وكما الكرة، ونحن في حماقاتنا وتعصبنا وازدرائنا لبعض!
آن الأوان لكل جماعة أن تقدِّم الأجيال الجديدة لقيادتها، وأن تبحث عن القواسم المشتركة بينها، وأن تعظّم الجوامع –وهي كثيرة- وتحترم الاختلافات –وهي قليلة- وفق منهج القرآن والسنة وتراث الأمة الحضاري.
ليست دعوة للانقلاب، ولكن للتصحيح والتجديد. وآن الأوان لوضع حد لتدهور الحالة الإسلامية، والتشتت الإسلامي، والفصام بين مفاهيم الالتزام والثبات من جهة، والوطنية والتسامح والتعاون مع الناس من جهة أخرى.
صحيح أن جهات ومنظمات ومؤسسات كثيرة لا تريد للدين وأتباعه أن يبقوا مؤثرين، فالدين ينغص عليهم توجهاتهم، ونحن أسهمنا بشكل أو بآخر في تشويه صورة الدين والتديّن، ولكن لا يمكن لنا بحال من الأحوال أن نتنازل عن مقومات حياتنا الحقيقية. وهذا ما ينبغي لأصحاب التوجهات الأخرى أن يفهموه؛ أن هذا دين، وليس له شأن بالبشر، بل برب البشر الذي خلقهم، وهو الذي أنزل الكتب وأرسل الرسل هدىً للناس وإرشادا لعبادته تعالى وحده. ويعلم الله سبحانه أن البشر بحاجة إلى منهج يسيرون عليه، وإلا كان النكد والضلال، كما هو العهد بهم في كل زمن. ولذلك فهم عندما يطالبون بتحكيم الإسلام مثلا، فهو التزام بالدين، وليست المسألة دعاية لجماعة أو حزب. هذا هو التدين الحقيقي، أن أعيش الإسلام واقعا ومنهجا: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ..." (النساء، الآية 64)، "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (النساء، الآية 65)؛ فهو التسليم المطلق لحكم الله وشرعه، فلا مجاملة في هذا أبدا.
لا يتعارض تطبيق الإسلام مع الانفتاح على الأمم، ولا مع مفهوم السلم العالمي، ولا التوجه الحضاري. وتجارب الدول الإسلامية السابقة حاضرة واضحة محفوظة. ولكننا نعيش في زمن الهزيمة، فشك الناس في تاريخ المسلمين، وصوره بعضهم بأنه دموي متخلف رجعي، وهذا ظلم واضح، فلا يجوز الحكم على الأمة كلها وعلى تاريخها من خلال محطات تاريخية، ولا أماكن بعينها. وهنا لا بد من فضح الأمم الأخرى بتسليط الضوء على أحوالها، كيف كانت تعيش جهلا وتخلفا وقتلا وعادات ما أنزل الله بها من سلطان، بل قولوا: لنكشف حقيقة الحضارات المعاصرة، وهذه الازدواجية في المعايير، وهذا النفاق العالمي والظلم، حين يُقتل الإنسان البريء وتنهب ثروات الشعوب، وتحتَرم حقوق الحيوان أكثر من الإنسان، بل حين يصبح الناس عبيدا للمال والشهوات والسياسات الظالمة، ويتلذذون بمشاهد القتل التي تحدث على المسلمين بالذات، هنا نعرف حجم الحقد الحقيقي على هذا الدين.
ومع هذا، فالدين محفوظ، والأيام دول، ولا بد يوما من انتصار الحق. ولكن أين من ينصر هذا الدين؟ فلنكن على مستوى المسؤولية.