
مجد جابر
عمان- يبدو أن التغير الكبير بشخصية الطفلة زينة (11 عاما) والتبدل الذي طال تصرفاتها وأسلوبها وتعاملها مع المحيط، كانا أشبه بإنذار خطر، استشعرته عمتها بحكم تواجدها القريب منها أغلب الأقات.
كانت الطفلة دائمة النشاط والحركة ولا تتوقف عن اللعب، لكن فجأة انقلبت كل تصرفاتها، تبكي بغالب الأوقات، ترفض اللعب مع أحد وتفضل البقاء بغرفتها برفقة ألعابها، صامتة لا تتحدث مع أحد.
وبعد نقاش طويل خاضته العمة سهاد مع والدة الطفلة عن حالتها وأنها ربما تعاني من اضطراب نفسي، كونها تفضل العزلة عن المحيط، وترفض المشاركة بأي نشاط، انطوائية وتصرفاتها غريبة وتكره الذهاب للمدرسة؛ رفضت الأم ما يقال، وأجابت “بنتي مش مريضة نفسية”!
ولكن بعد محاولات عدة، شعرت الأم بخوف حقيقي على طفلتها، خصوصا بعد انقطاع شهيتها عن الطعام ونزول وزنها بشكل واضح، وبعد البحث عن الأسباب تبين أنها بالفعل تتعرض للتنمر من مجموعة من الفتيات بالمدرسة اللواتي يستقوين عليها لأنها أقصر منهن بالقامة.
ذلك الأمر لم يكن جديدا على الطفلة؛ إذ كانت تتعرض باستمرار لعنف نفسي طوال فترة دراستها وعلى فترات، ولم تحرك الإدارة ساكنا، وكانت تخفي مشاعرها بداخلها، وتراكم الأمر حتى وصلت لهذه الحالة.
تداركت العائلة الحالة، وتم نقل الطفلة لمدرسة جديدة، والحديث مع المعلمات عن خصوصية حالتها وجلوسها مع مرشدة اجتماعية استطاعت فعلا مساعدتها، وبعد محاولات طويلة استطاعت أن تعود لتوازنها وإقامة صداقات جديدة، والعودة لنشاطها المعتاد.
هند عزالدين شعرت بالاستغراب من ابنها البالغ من العمر (7 أعوام)؛ إذ أصبح يتصرف بطريقة غريبة، ولاحظت عليه حزنا وكآبة وعزلة لا تتوافق أبدا مع مرحلته العمرية. لم تتوقع هند أن تكون الخلافات والصراخ بسبب المشاكل التي تقع بينها وبين زوجها أمامه، خصوصا في الفترة الأخيرة، قد أثرت عليه لهذه الدرجة، لكنها أدركت حالته النفسية حينما قال لها “أنا بخاف منكم ومن صوتكم العالي ما بدي أعيش معكم”. وحينما تحدثت مع زوجها بما قاله طفلها، لم يعط الموضوع أي أهمية، وثار غضبا، قائلا “إنتِ بدك تعملي ابننا مجنون”!
وتبين هند أن زوجها لم يتغير بطبيعته وصوته العالي، ولا حتى قام بتبديل سلوكه من أجل طفلهما، إنما زاد قسوة عليه وتعمد الصراخ كلما رآه، معتقدا أنه بذلك سيعود لحالته الطبيعية.
اختصاصيون أكدوا أن صحة الطفل النفسية هي الهدف الأسمى للتربية، وأي خلل أو مشاكل تظهر على الأبناء في المستقبل يكون سببها تجاهل هذا الأمر، وعدم إعطائه أي أهمية، لافتين إلى أن تمتع الصغار بصحة نفسية هو حق أساسي من حقوقهم ويجب حماية هذا الحق لضمان حياة جسدية وعاطفية واجتماعية طبيعية لهم.
وفي ذلك، يذهب الخبير في حقوق الطفل ومواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة ومستشار أول الطب الشرعي الدكتور هاني جهشان، الى أن الصحة النفسية للطفل، تعني الوصول للنضوج العاطفي حسب مرحلة نموه، وتعلم المهارات الاجتماعية الصحيحة، والتعامل مع التحديات والعقبات التي قد يواجهها. ويشير إلى أن تمتع الأطفال بصحة نفسية هو حق أساسي من حقوق الإنسان، ويجب حمايته لضمان حياة جسدية وعاطفية واجتماعية طبيعة للطفل، وهو محور أساسي من محاور ضمان الصحة العام للمجتمع، ويؤمن مخرجات تعليم سديدة وناجزة، ويضمن الصحة والإنتاجية الاقتصادية لدى وصول الطفل لمرحلة البلوغ.
ومن الممكن وصف الاضطرابات النفسية لدى الأطفال، وفق جهشان، بأنها تغيرات، بعضها خطير وينعكس سلبا على قدرة الطفل على التعلم، وتشمل أيضا تبدلات في السلوك، وإخفاقات بالاستجابات العاطفية الطبيعية، وهذه جميعها تسبب للطفل الكرب والتوتر.
ويعتبر جهشان أن اضطرابات الأطفال النفسية المهملة بدون علاج، تفسد حياة الطفل في المنزل والمدرسة وفي المجتمع، وتمتد العواقب السلبية لأسرة الطفل؛ إذ إن غياب العلاج يعني أنه سيكون معرضا لعواقب خطيرة من مثل الإخفاق بالدراسة، وارتكاب أفعال تضعه في نزاع مع القانون (جنوح الأطفال واليافعين)، والإدمان، وتلحق ضررا بصحته الجسدية وقد تصل لإنهاء حياته بالانتحار، وهذه العواقب قد تلازمه طوال حياته، وبمرجعية الصحة العامة ستنعكس سلبا على كامل المجتمع.
ويتفق الاختصاصي الأسري والتربوي أحمد عبدالله مع ما يقوله جهشان؛ إذ يؤكد أن الصحة النفسية للطفل هي الهدف الأسمى للتربية، فالتربية التي لا تقود الى ذلك تعد “مشوهة”، وتنتج جيلا معرضا للكثير من الانحرافات النفسية والسلوكية.
ويعتبر عبدالله أن شخصية الطفل في المراحل الأولى من عمره هي الأكثر احتياجا للصحة النفسية؛ حيث يتمحور تفكيره حول نفسه وأهله، بالتالي هو يستمد مستوى صحته النفسية من ذويه، فإن لم ينتبه الأهالي الى أهمية توفير بيئة آمنة صحيا للطفل، فإنهم يبنون شخصية مهزوزة منذ الطفولة.
وما الانحرافات التي يعاني منها بعض الأهالي في أبنائهم على غرار قضم الأظافر والعناد والتبول اللاإرادي والمشكلات الدراسية، إلا جزء من أمثلة تجاهل الصحة النفسية للأبناء أو التعامل معها بطريقة خاطئة، وفق عبدالله.
الخبير في حقوق الطفل جهشان، يعود ليؤكد المسؤولية التي تقع على عاتق الآباء في ملاحظة أي أعراض تشير للاضطرابات النفسية، ويتوقع أن يتم ذلك بالتعاون مع المعلمين في المدرسة ومقدمي رعاية الأطفال في المؤسسات الأخرى من مثل النوادي والمؤسسات الرياضية والاجتماعية.
ويؤكد أن لكل حالة مرضية علامات وسلوكيات خاصة بها، إلا أن وجود أي من العلامات أو السلوكيات الآتية يستوجب على ولي أمر الطفل أن يطلب المساعدة من المختصين: انخفاض في أداء المدرسة، وضعف التحصيل الأكاديمي على الرغم من بذل جهد من قبل الطفل، رفض متكرر للذهاب إلى المدرسة أو المشاركة في الأنشطة العادية، التوتر والقلق الدائم لفترات طويلة، فرط النشاط أو فرط الحركة، كوابيس مستمرة، استمرار العصيان أو العدائية، نوبات الغضب المتكررة، الاكتئاب والحزن أو التهيج.
لذلك لابد من تعزيز الوعي لعموم المجتمع بما يتعلق بطبيعة الاضطرابات النفسية الشائعة، وحجمها الإحصائي، ووسائل العلاج والتأهيل، والتوعية بالخدمات العلاجية والتأهيلية المتوفرة بالمجتمع المحلي.
وتشمل برامج التوعية أيضا، بحسب جهشان، عرض معلومات تتعلق بالاكتشاف المبكر للحالات، ومواجهة الوصمة المتعلقة بالاضطرابات النفسية للأطفال والتي تفاقم المعاناة العاطفية والكرب الاجتماعي للطفل والأسرة، والتي أيضا تمنع الأسرة من التوجه لطلب العلاج والتأهيل، وتهدف برامج التوعية أيضا، بالتعاون مع القطاعات الحكومية والتطوعية في المجال الاجتماعي والطبي والنفسي، للعمل بشراكة حقيقية حماية للأطفال الذين يعانون من الاضطرابات النفسية.
وينوه جهشان إلى أنه يتوجب توفير خدمات علاج وتأهيل الأطفال الذين يعانون من الاضطرابات النفسية بشكل متكامل من النواحي الطبية والنفسية والاجتماعية، مبيناً أن واقع خدمات العلاج النفسي في الأردن أليم ويتصف بتدني جودة الخدمات الطبية والاجتماعية المقدمة للمرضى النفسيين عموما والأطفال خصوصا.
إلى ذلك، هناك غياب شبه تام للمختصين بالتعامل مع الأطفال الذين يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية والمراهقين المدمنين على المخدرات، كما أن الخدمات المتوفرة تتصف بعدم الانتظام وبغموض إجراءات التعامل مع الحالات الطارئة، كما أن هذه الخدمات غير مدمجة بالرعاية الصحية الأولية وفي الخدمات الاجتماعية، وهناك نقص في التوزيع الجغرافي لهذه الخدمات، وغياب المعايير المناسبة للتوظيف واستخدام الموارد البشرية وغياب معايير الرعاية وآليات مراقبة الجودة.
ويختم جهشان بأن رعاية الأطفال الذين يعانون من الاضطرابات والأمراض النفسية وإعادة تأهيلهم جسديا ونفسيا واجتماعيا هي مسؤولية وطنية تتطلب مبادرة جدية من الحكومة لإقرار تشريع خاص قائم على الدليل العلمي المسند وبمرجعية استراتيجية وطنية، تضمن توفير جودة عالية لخدمات الصحة النفسية، والتوعية بتثقيف عامة المواطنين بأهمية الصحة العقلية، ورفع كفاءة الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين، وضمان توفر الموارد المالية والبشرية. وتشير مرجعيات منظمة الصحة العالمية الى أن 50 % من جميع الأمراض النفسية، بما فيها الاكتئاب، تبدأ في عمر الطفولة (بعد 14 عاما)، كما وتشير الدراسات العالمية المسندة إلى أن 3 % من مجمل عدد الأطفال (أقل من 18 عاما) و8 % من فئة المراهقين يعانون من الاكتئاب. كما أن واحدا من كل خمسة أطفال يعاني من مدى متفاوت من مشاكل الصحة النفسية التي تكون في الأغلب قابلة للتشخيص والعلاج، إلا أن ما يقارب ثلثي هؤلاء الأطفال لا يحصلون على تأهيل وعلاج حقيقي أو لا يحصلون على علاج مطلقا.