إيران وأميركا وإسرائيل: لعبة الاختباء في الشرق الأوسط

تظاهرة نسائية مؤيدة للنظام في طهران - (أرشيفية)
تظاهرة نسائية مؤيدة للنظام في طهران - (أرشيفية)

باري لاندو- (تروث ديغ)*
 ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

في تصاعد خطير للاغتيالات والتهديدات والتهديدات المضادة، يحافظ قادة واشنطن وتل أبيب وطهران على رفع وتيرة التوتر. وما يعد النذير الأكثر في الحالة هو أن المبدأ الذي ينخرط فيه اللاعبون الرئيسيون ومستشاروهم هو لعبة "الغمّيضة" ثلاثية الأطراف على نحو لا يصدق.اضافة اعلان
إذ لا يعبّر أي منها عن تفهم حقيقي للأطراف الأخرى: دوافعها واهتماماتها ولا حتى لردود أفعالها المرجحة. وذلك حقيقي حتى مع إسرائيل والولايات المتحدة: على الرغم من أن الولايات المتحدة تغامر بجذبها إلى أتون صراع بين إسرائيل وإيران، حيث تجبر الولايات المتحدة راهناً على تخمين ما قد يكون الحلفاء الإسرائيليون المفترضون بصدد التخطيط له.
وما عسى أميركا أو إسرائيل -أو أي بلد- فعله إذا كان قد تم اغتيال خمسة من علمائه على يد قوة عدوة؟ وكيف له أن يرد إذا كان أقوى بلد على وجه البسيطة قد بعث في نفس الوقت بقواته إلى حدوده، حتى مع تشديد الحصار عليه لخنق اقتصاده بقصد سرقته؟ هل سيقدم على التذلل والتزلف أمام المطالب بأن يضع حداً لأي نشاطات تتعلق ببحوث الأسلحة النووية أو تطويرها (والتي تتوافر عليها، بالطبع، الولايات المتحدة وإسرائيل)- أو يعمد إلى القيام برد انتقامي عنيف؟
وثمة الكثير من الناس الذين يحتلون مناصب مهمة ممن يتكهنون بما سيجلبه قادم الأيام. ولكن، على من يمررون هزلهم؟ يبدو الأمر وكأننا نتابع أولاداً يلعبون من حولنا بزجاجات تحتوي على كيميائيات شديدة التفجر. ولا أحد ينطوي على تأكيد بموعد وقوع الانفجار ولا على مدى كارثية سلسلة ردود الأفعال التي ربما يشعلها.
بل إن ما يجعل الأمور أكثر خطورة هو حقيقة أن قادة البلدان الثلاثة المنخرطة -إسرائيل وإيران والولايات المتحدة- تجد أنفسها أمام تحدي أعداء ألدّاء في داخل بلدانها نفسها. ونظراً لأن نزاعها الراهن يذهب إلى الأمام والوسط، فإن أي خطوة تتخذها ستكون بشكل تلقائي الهدف المستهدف للمعارضين الأشرار-والجاهلين غالباً على نحو مؤلم.
وبعبارات أخرى، لو كان القادة ومستشاروهم أكثر اطمئناناً على عروشهم الخاصة، فإنهم قد يكونون قادرين على اتباع نهج أكثر برودة وأكثر عقلانية بكثير. بل ربما يكونون أقدر على الجلوس وجها لوجه والتفاوض. أما الأسوأ، فهو احتمال أن اللاعبين الرئيسيين ومستشاريهم الرئيسيين والوكالات الاستخباراتية والمنتقدين المحليين، لا يستوعبون فعلاً ما الذي يحضر له الآخرون -من أين سيأتون وما الذي يريدون إنجازه.
إنها ليست لعبة الغمّاية، وإنما الملاكمة الوهمية —الملاكمة مع صور كاريكاتورية: وفي هذه الزاوية يبدو الملالي الملتحون في طهران وأنهم متلبسون بهاجس حيازة الأسلحة النووية من أجل القضاء على إسرائيل لتأسيس خلافة جديدة. وفي تلك الزاوية، فإن الامبرياليين الجشعين في واشنطن، والذين استخدموا لعقود وكالة الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه) والقوة العسكرية الأميركية لإخماد حركات التحرر الوطني وإدامة دولة إسرائيل الصهيونية والدكتاتوريين العرب الفاسدين، والذين يتوافرون على ثراء نفطي.
وقد أصبحت تلك الصور الكاريكاتورية حاضرة على نحو معمق جداً لدرجة أن الوكالات الاستخباراتية الموضوعية لدى كل من هؤلاء المتحاربين- ناهيك عن إعلام الاتجاه السائد- تميل إلى الرقابة أو الحذف أو الابتعاد عن المعلومات التي لا تسير وفق "الحقيقة" الرسمية. وقد كانت لي تجربة شخصية مع الاعتقال في هذه الظاهرة في العام 1980، عندما كنت منتجاً لتغطية مدتها 60 دقيقة للثورة المستمرة في إيران خلال أزمة الرهائن. وفي الذهاب والإياب بين طهران ونيويورك وواشنطن، صدمت لعدم قدرة الأميركيين الكلية -حتى على أرفع مستوى- على فهم المشاعر والتاريخ اللذين ساقا الكراهية لكل شيء أميركي كان قد تفجر في إيران مع سقوط الشاه.
وتماماً في شارع "ويست 57" إلى الغرب من شبكة التلفزة الأميركية (سي بي اس) على سبيل المثال، كانت ثمة لوحة إعلانات ضخمة تحمل صورة شيطانية للخميني وهو ينظر أسفلاً على نيويورك. فاقترحت أن نضع تقريراً لإعطاء الأميركيين فكرة أفضل عن السبب الذي كان يدفع الثوريين الإيرانيين ومشاعرهم العنيفة ضد الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنها كانت تلقى التشجيع من جانب العناصر الراديكالية في طهران، فقد كانت تلك الكراهية تزود بالوقود من جانب حقائق واقعية: التاريخ المخزي للتدخل الأميركي في إيران، بدءاً من اغتيال (سي أي ايه) للزعيم الوطني المنتخب ديمقراطيا محمد مصدق في العام 1953، إلى الدعم الأميركي اللاحق لشاه إيران.
وشمل ذلك الدعم العلاقات الأوثق بين (سي آي إيه) وجهاز البوليس السري سيئ الصيت التابع للشاه، السافاك، والذي كسب السمعة السيئة بسبب التعذيب والوحشية. (في المستقبل، بالطبع، شحبت وحشية السافاك مقارنة بالسجون المرعبة والقمع الوحشي للخميني والأنظمة التي خلفته.)
ولإعطاء فكرة عن علاقات أميركا مع الشاه والسافاك، أعددت تقريراً قاسياً مع مايك والاس، استند إلى سلسلة من المقابلات في نيويورك وواشنطن. وقالت لنا جيسي ليف، محللة وكالة (سي آي إيه) السابقة: "كان عليك أن تكون مرشحاً رئاسياً أعمى وأطرش وأصم حتى لا تعرف أنه كان هناك تعذيبا يجري في إيران في ظل الشاه". وأضافت: "لقد عرفنا ماذا كان يجري ولم نفعل شيئا حياله. وتحديداً كان عدو الشاه عدواً للسي آي ايه. لقد كنا أصدقاء. وكانت العلاقة وثيقة جداً بين الولايات المتحدة وإيران".ومن جهته، دان ضابط (سي آي إيه)، ريتشارد كوتام، الولايات المتحدة ووزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر لغضه الطرف عن مغالاة الشاه ولفضه أي اتصالات مع مجموعات المعارضة. "ما بدا أنك تقوله، بروفيسور كوتام،" تدخل مايك والاس "هو أنه عندما يُطرح السؤال في نهاية المطاف: من خسر إيران؟ فإن هنري كيسنجر يقف على قائمة المتورطين." فأجاب كوتام: "أعتقد بأن فكرة هنري كيسنجر الخاصة بالدبلوماسية بهذا المفهوم هي... غير قابلة للتسامح معها".
كما غطينا بعض الوثائق الحكومية السرية الأميركية التي كشف عنها الإيرانيون الذين استولوا على السفارة الأميركية. وأظهرت تلك الوثائق أن الدبلوماسيين الأميركيين المتمركزين في طهران كانوا قد حذروا واشنطن قبل شهور من التهديد المحتمل بالاستيلاء على السفارة -خاصة إذا سمحت الولايات المتحدة للشاه المخلوع بالمجيء إلى أميركا لتلقي العلاج الطبي، وهو ما فعلته الولايات المتحدة في نهاية المطاف. وكانت واشنطن قد تجاهلت كلية كل تلك التحذيرات.
وفي مقابل الإفراج عن الرهائن، كانت الحكومة الإيرانية بقيادة الرئيس أبو الحسن بني صدر تطالب بتعهد من الولايات المتحدة بعدم التدخل في الشؤون المستقبلية لإيران، وباتفاقية لعدم إعاقة جهودهم الرامية لاستعادة الشاه وثروة إيران التي اختلسها. كما أنهم أرادوا إقراراً من جانب الولايات المتحدة بالأخطاء الأميركية السابقة. وعلى ضوء الماضي، سألنا، هل كانت تلك المطالب مباشرة جداً؟
وفي سياق المشاعر الأميركية التي كانت متوترة جداً في ذلك الوقت، كانت  حتى إثارة ذلك السؤال تعتبر مهينة. وعلى مدار الأيام التالية، فيما كنا نعد التقرير، تلقينا مكالمات من العديد من المسؤولين في واشنطن والذين كانوا قلقين بشأن الإذاعة. وقد توج ذلك الرئيس جيمي كارتر نفسه الذي اتصل ببيل ليونارد، رئيس أخبار (سي بي اس) في محاولة لإقناعه بعدم إذاعة التقرير. وقال إن من شأن التقرير تقويض المفاوضات الأميركية مع إيران في وقت حساس جداً.
ومما يسجل له أن بيل ليونارد رفض التراجع. والشيء الوحيد الذي طلبه كان تغيير عنوان تقريرنا من: "هل يتوجب على الولايات المتحدة الاعتذار" إلى عنوان أكثر حيادية: "ملف إيران." وعندما سألنا ليونارد، حاججنا بأنه كان من الصعب فهم كيف لتقريرنا أن يقوض مفاوضات الرهائن. ولم نكن نكشف أي أسرار لإيران. وكان الإيرانيون يعرفون أصلاً دور الولايات المتحدة في تاريخهم الخاص. لقد كان الناس الذين كنا نقدم تقريرنا إليهم هم 20 مليون أميركي– من الذين لم يفهموا ماذا كان يغضب إيران.
وهم ما يزالون لا يفهمون.


*خريج جامعتي هارفارد وكولومبيا، أمضى  25 عاما كمنتج استقصائي لبرنامج 60 دقيقة. آخر كتبه هو "شبكة الخديعة: تاريخ التآمر الغربي في إيران، من تشرشيل إلى كنيدي إلى جورج دبليو. بوش".
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
 The Blind Man’s Bluff in the Middle East

[email protected]