"ابن خلدون": مسرحية تمزج بين الماضي والحاضر

 

الناصرة - تمزج مسرحية "ابن خلدون" بين الماضي والحاضر، بين صورة القسوة واللين المدعم بالمعرفة، بصورة تمكنها من رفد المشاهد بمشاعر تؤكد له أن ما يحصل من ظلم وترهيب بادعاء المحافظة على العدالة، إنما هو عابر ولن تبقى في النهاية سوى نار المعرفة تشعل نفسها لتنير في مساحات معتمة من عالمنا تنطلق باتجاه المستقبل.

اضافة اعلان

 المسرحية عبارة عن ستة مشاهد، لكتاب أجانب بارزين وهذه المشاهد هي: مراقب الدولة لإيلان حتسور، وصور من حياة زوجية لانجمار برجمان، وعملية رد ربيع لحانوخ ليفين، وكسر الخنزير لاتجار كرت، وفندق بلازا لنيل سايمون، والدرس ليوجين يونسكو.

وينتصب المفكر المؤرخ التونسي ابن خلدون، صاحب كتاب "مقدمة ابن خلدون" المشهور، بين هذه المشاهد ليقدم الملاحظات، وليكون بالتالي ضمير المشاهد المتابع لمشاهد المسرحية، يقدم الرأي تلو الرأي والفكرة اثر الفكرة، ولسان حاله يقول إن التاريخ يعلمنا أن ظلما لا يدوم، وأن المستقبل المشرق بانتظار من ينشده إذا ما تحلى بالصبر وسعى إليه.

 قام بإعداد هذه المسرحية وإخراجها الفنان هشام سليمان، من مدينة الناصرة داخل أراضي 48، وعرّب نصوصها الفنان الممثل طارق قبطي، وأعد النص الخلدوني الكاتب ناجي ظاهر، وقام بأداء الأدوار التمثيلية فيها كل من الفنانين: مروان عوكل، وسناء لهب، وميساء خميس، وحسن طه، وشادي سرور، وأدى هذا الأخير دور ابن خلدون رابطا بدوره هذا ما بين عوالم بدت في ظاهرها متباعدة، غير أنها في عمقها مترابطة، زاد في ترابطها هذا، الظهور القوي لمفكر هو ابن خلدون، ما يزال صالحا للقراءة في فترتنا الراهنة أيضا، رغم أنه مضى على كتابته لمقدمته المشهورة 631 عاما.

 كان من الواضح، في العرض الاحتفالي الأول لهذه المسرحية الذي عرض يوم الثلاثاء الماضي في المركز الثقافي البلدي في مدينة الناصرة، أن المسرحية تقدم كولاجا مسرحيا يتطرق ما ضمه من مشاهد، إلى قضايا آنية معاصرة، في طليعتها فساد السلطة، وسطوة الاحتلال وعبثيته، والعلاقة الزوجية، والتربية البيتية، وجني الأموال بصورة غير شرعية، والقضية الفلسطينية التي باتت واحدة من أبرز القضايا ليس في منطقتنا فحسب، وإنما في العالم كله أيضا.

أما ابن خلدون، فإنه يتجول بين المشاهد المسرحية وشخوصها مخاطبا الجمهور وطارحا أمامه نصوصه الحافلة بالحس الإنساني الواعي القائم على معرفة متعمقة بأحوال البشر وأساليب معاشهم، ترافق هذا كله نبرة ثورية ترفض الظلم والقهر وترنو إلى مستقبل أفضل، تمكن الفنان شادي سرور من نقلها إلى مشاهدي المسرحية بأقصى ما أمكنه.

تركبت المسرحية من مشاهد أكمل أحدها الآخر، فهي تبدأ بمشهد مراقب الدولة، وهو مشهد ناقد جريء، ينقل صورة لما يمكن أن يلحق بالسلطة المحلية من فساد، وما يهم هذه السلطة من بقاء في سدة الحكم غير عابئة بمصلحة أخرى سوى مصلحتها. بعد هذا المشهد نتقدم إلى داخل البيت، وإلى غرفة النوم تحديدا، لنرى صورة للحياة الزوجية المهزوزة في عالمنا المعاصر، فالزوج يريد شيئا والزوجة تريد شيئا آخر، وشتان ما بين الموقفين.

 تنتقل المسرحية إلى مشهد آخر يصور تعامل الاحتلال مع صاحب بيت فلسطيني، خلال البدء في نسف بيته وبعدها، هذا المشهد يظهر بشاعة الاحتلال بصورة جلية، فهو يهدم البيت الفلسطيني، ويقدم في الآن ذاته الدواء لابن صاحب البيت، بعد أن فقد عينه خلال نسف الاحتلال لبيته، ذارفا دموع التماسيح.

بعد هذا المشهد تقدم إلينا المسرحية مشهدا يمزج بين الغناء والقصة، ويقدم إلينا صورة لمفاهيم مغلوطة عن المال وادخاره، تارة عن طريق الغناء وأخرى عن طريق المناجاة الشخصية للذات. تعود المسرحية بعد ذلك، إلى مشهد تدور أحداثه داخل البيت، لتقدم بعد هذه الصورة الكاشفة، صورة لحياة زوجية، يكشف عما تحفل به هذه الحياة من مفارقات عبر إغلاق الابنة العروس الحمام على نفسها، وينتهي المشهد نهاية سعيدة تخرج أثناءها العروس من حمامها، وكأن شيئا لم يحدث.

 وتنتهي المسرحية بالمشهد السادس والأخير لتقدم صورة للعبث الذي يقود الناس في العالم إلى متاهات هم في غنى عنها، ويتوسل بتقديمه لهذه الصورة، بتلميذة، لا يتقن مدرسها تعليمها لأنه لا يفكر بطريقتها، أو بطريقة يمكن أن تجمع بينه وبينها، وإنما يفكر بطريقته الخاصة، ما يجعل ابن خلدون يتقدم منه ويهتف به، محاولا أن يقول له ما مفاده، ما هكذا تورد الإبل يا أخ العرب، فعليك باللين في تعليم من تريد تعليمه، كما أنه يطلب منك ألا تلجأ إلى الشدة إلا بعد أن تبذل كل ما يمكنك من اللين.