ارتداد انتقامي مرتبك تجاه العولمة

تحاول دول كبرى وأخرى صغيرة التخلص من التداخل العالمي الاقتصادي والسياسي والإعلامي والثقافي الذي تبلور في أواخر الثمانينيات وأعاد تشكيل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في معظم إن لم يكن جميع دول العالم حتى صارت شبكة الإنترنت ومنظمة التجارة العالمية تنتظم فيها الأعمال والسياسات متجاوزة السياسات الحكومية الوطنية، وبدا أن العولمة تبشر بوعود جديدة تغير جذريا في المؤسسات والأفكار التي أنشأت العالم الحديث حول الثورة الصناعية وظلت تعمل بكفاءة لأكثر من ثلاثة قرون.اضافة اعلان
لكن العولمة منيت بضربات قاصمة، مثل الأزمة الاقتصادية العالمية (2008) والفوضى التي اجتاحت دولا عدة في البلقان والاتحاد السوفيتي السابق والشرق الأوسط وصعود الإرهاب والتطرف، ما جعل خصوم العولمة والاتجاه اليميني في السياسة والاقتصاد يستعيد المبادرة ليرتد بالعالم نحو سياسات محافظة ومركزية وخروج من الأطر والمؤسسات العالمية والإقليمية، مثل انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو، وتخليها عن التزامات واتفاقات ترعاها منظمة التجارة العالمية حول تدفق الأعمال والاستثمارات في العالم. كما صعد اليمين السياسي في كثير من الانتخابات العامة التي جرت في السنوات الأخيرة حول العالم.
هكذا فإن الذين أنشؤوا العولمة ورحبوا بها وروجوا لها هم من يريد اليوم أن يتخلى عنها، لكنهم كما تضرروا من العولمة فإنهم أيضا يتضررون من الارتداد على العولمة والانسحاب منها، ذلك أنه في واقع الحال لم تكن العولمة الاقتصادية والاجتماعية مجرد اتجاهات وسياسات اقتصادية واجتماعية يؤمن بها قادة ومفكرون ومنظرون، لكنها كانت استجابات معقدة وشاملة للتحولات التي جرت في الموارد والاعمال والتكنولوجيا.
إن التاريخ الإنساني سلسلة من الأمم والموارد والاقتصاديات والتكنولوجيا التي تصعد وتزدهر وأخرى تفشل وتفنى أو تذوب في أمم أخرى أقوى منها، وبطبيعة الحال فإن الحاضر والمستقبل يتشكلان وفق القاعدة نفسها، صعود أمم وانحسار أخرى! في تغير المناخ ضمرت أمم لم تقدر على التكيف والمواجهة، وفي تطور الزراعة صعدت الأمم التي تشكلت حول المناخ المعتدل والماء الوفير، وفي التجارة والتبادل بين أنحاء العالم صعدت الأمم ذات المهارات التجارية والمواقع الاستراتيجية والمهمة لحركة القوافل والمدن، وفي الكشوف الجغرافية البحرية صعدت إسبانيا والبرتغال في القرن السادس عشر، لكن تفوقت عليهما القدرات التجارية والاستثمارية لبريطانيا وهولندا، وتقدمت فرنسا معتمدة على الزراعة والثقافة،.. وهكذا فإن التاريخ الإنساني هو القدرة أو الفشل في التقاط الفرص ومواجهة التحديات في بناء القوة الاقتصادية والسياسية للأمم!
تشكلت الحضارة المعاصرة عندما استقل العلم عن رعاية الحكام والأغنياء والمؤسسات الدينية وصار جزءاً محركاً للاقتصاد والازدهار، صعدت الصناعة ومعها طبقات ومؤسسات ومدن جديدة، صارت قوة الأمم وازدهارها تعتمد على الطاقة والمعرفة والتكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي والسياسي المُنشئ للرضا والتماسك والمبادرة والتنافس والإبداع، وصارت القيادة للطبقة الوسطى وللعلماء والمبدعين والمهنيين المتقدمين، واختفت الطبقات الأرستقراطية والإقطاعية والامبراطوريات والمدن التي تشكلت حول الموارد الطبيعية. ويتشكل اليوم عالم جديد يُنشئ موارد وتحديات وفرصاً تغير على نحو جوهري في الحضارة والقوة «الصناعية» التي بدأت منذ القرن السابع عشر، وازدهرت في القرن الثامن عشر.
قامت الثورة الصناعية على محاكاة القوة الجسدية بأضعاف مضاعفة، هي ببساطة التكنولوجيا التي تقوم بما يعمله الإنسان لكن بسرعة مضاعفة وقوة وكميات مضاعفة، ولكن تكنولوجيا المعرفة هي محاكاة عقل الإنسان، وعندما بدأ الإنسان منذ منتصف القرن العشرين ينشئ آلات قادرة على معالجة المعلومات معالجة منطقية، بتحويل النصوص والصور والأصوات إلى «فوتونات وإلكترونات» ثم تنظيم وتحليل هذه المعلومات كما يفعل عقل الإنسان، صار في مقدور الأجهزة أن تحل محل الإنسان في أعماله ومهاراته المعرفية، كالمحاسبة والرياضيات والتدقيق والترجمة والمراقبة وتحليل المعلومات والإحصاءات وبقدرات وسرعات هائلة وتسيير المصانع والسيارات والطائرات والبواخر والقطارات، تغيرت المؤسسات والأسواق والأعمال والمهن والموارد والمصالح والفرص والتحديات والقوة والضعف، والقيم والعلاقات الاجتماعية، وبطبيعة الحال فإن الأمم تواجه السؤال مرة أخرى، ما القوة والازدهار؟ وما الضعف والفشل؟